طفح الكيل؛ وأزِفَ الحساب!!

2020.07.06 | 00:01 دمشق

thumbmaker.jpeg
+A
حجم الخط
-A

لعل إحدى تجليات الكوميديا السوداء في المأساة السورية هو تعامل ما يُسمّى بالعالم "المتحضر" مع الضحايا السوريين الأبرياء من منطلق "أبناء الست، وأبناء الجارية" مقارنة مع نظرائهم اليهود الذين قُتلوا في معسكر "أوشفيتس"؛ حيث أصبحت محارق اليهود "الهولوكوست" لازمة الشعراء يستحضرها العالم الغربي؛ بينما مآسي السوريين غير المسبوقة في التاريخ هي من المنسيات في أذهان وضمائر من يدعي حرصه على الإنسانية.

لقد لاحق اليهود رجالات النازية وعملاءها وأدواتها وكل مَن تحالف معها في أربع أصقاع الأرض. هناك مَن بلغ التسعين من عمره؛ وكان مع النازية؛ واستطاعت الأيدي الصهيونية من الوصول إليه، والاقتصاص منه. وحتى هذه اللحظة، يستمر ابتزاز ألمانيا بمئات ملايين الدولارات إثر تلك الفعلة.

حَدَثَ ذلك رغم أن ما حصل لليهود على يد النازية، و"الهولوكوست"-المحرقة- التي حلّت بهم؛ يكاد يكون تفصيلاً مقارنةً بما حلّ بالسوريين. أكثر ما يلفت الانتباه بالقصة السورية، والموقف العالمي تجاهها على صعيد إعلامي وسياسي؛ هو أنه حتى أعمق وأقسى التوصيفات لما تعرّض له السوريون، لم تستخدم عبارة "هولوكوست"؛ وكأن هذا التوصيف محتكرٌ حصراً لليهود، ولا يحق حتى لمن عاشوه أن يستخدموا العبارة؛ علماً أن "المحرقة" التي ولّدت العبارة قد عاشها السوريون مرات في أفران صيدنايا على يد نظامهم الذي يحمل هويتهم. ولا ندري إذا أوحت الخمس وخمسون ألف صورة لسوريين قضوا تحت التعذيب خلال أقل من عامين فقط، بشيء يشبه الهولوكوست! ماذا عن الآلاف في السنوات السبع الماضية؟ هل دامت أفران حرق اليهود تسعة أعوام؟ هل تشرد من اليهود اثنا عشر مليون إنسان؟ هل دمرت النازية النسيج الاجتماعي اليهودي؟ هل استدعى هتلر ميليشيات من كذا دولة لقتلهم؟ هل استدعى احتلالين بطائراتهم وفرق قتل متخصصة لسحقهم؟ والسؤال الأغرب؛ ماذا إذا ثَبُتَ أن أحفاد من قضوا في الهولوكوست من اليهود كانوا جزءاً من حماية من ارتكب الهولوكوست السوري بشكل مباشر أو غير مباشر؟ هل يقلل ذلك من قيمة الهولوكوست على يد هتلر، ويدعو للشك به؟ حقيقة لا نريد أن نصل إلى ذلك؛ وما نتطلع إليه ليس إلا الإنصاف والعدالة.

باختصار الهولوكوست السوري لا يقل اطلاقاً عن ذاك الذي أصاب اليهود؛ بل يفوقه بالتأكيد؛ ولكنه لم ينل الانتشار والزخم الذي ناله. يبدو أن الفرق الأساس بينهما يكمن بردة فعل من لحقهم الهولوكوست؛ فكما ذكرت أعلاه اليهود يلاحقون النازيين حتى الآن. ومن هنا على السوريين أن يبدؤوا من الآن بالتفكير بمقاصصة مرتكبي الهولوكوست بحقهم، أكان ذلك المجرمون المباشرون أم أولئك الذين مدوا يد العون لهم. فكما تم إحصاء وتحديد 283 شخصية مجرمة من منظومة الأسد، لا بد من تحديد تلك الجهات الإيرانية والحزبلاتية والروسية التي ساهمت بارتكاب الهولوكوست السوري. لقد استكبرت حقائق التاريخ الكبرى على حكام الكرملين وقُم، الذين يؤمنون بشريعة الغاب لدرجة أنها أعمت بصرهم وبصيرتهم، حيث يعتقدون أن قوتهم التي راكموها بتعسفٍ على حساب رفاهية شعوبهم تخولهم أن يعاقروا القتل العشوائي ضد المدنيين السوريين العزل؛ وأن يتفاخر قادة جيوشهم علناً وتقيّة بأن أجساد السوريين كانت دريئة لاختبار ترسانة أسلحتهم.

لقد نسي هؤلاء أو تناسوا أن التوثيق في عصر العولمة لن يترك جرائمهم تُسجل ضد مجهول، بل إن كل أفعالهم الشائنة بحق أطفال سوريا قد دخلت في سفر الإجرام، ولن تسقط عقوبته بالتقادم. وعلى سبيل المثال لا الحصر، عندما ارتُكِبَت مجزرة حماة عام 1982 لم يسمع العالم الخارجي بتفاصيلها الاَّ بعد مرور زمن طويل على ارتكابها؛ بينما يتم الآن النقل المباشر للمجازر الجماعية التي يقترفها المحتلون الروس والإيرانيون بحق الشعب السوري. فهل يعتقد هؤلاء أنهم ناجون من القصاص للدم السوري الذي سفكوه بأعصاب باردة.

على هؤلاء أن يتذكروا أن ذاكرة الشعوب لا تنسى، وأن القصاص قادم؛ وأن أبناء السوريين الذين قضوا على يد هؤلاء السفاحين سوف تلاحقهم وأجيالهم، ولن يجدوا جحوراً في الأرض تتسع لستر ما اقترفت أيديهم بحق الشعب السوري؛ ولتتذكر منظومة الاستبداد وهؤلاء "المؤازرين" أن لهم عبرة برموز النازيين الذين قتلوا اليهود، حيث لم تستطع مجاهل أميركا الجنوبية أن تنجيهم من انتقام ضحاياهم.

أخيراً، بعد الخيبات التي أصابت السوريين، وبعد أن خذلهم الجميع، وبعد أن أشاح هذا الجميع بطرفه عن منظومة إجرامية فعلت بسوريا وأهلها ما فعلت؛ مبرر للسوريين أن يشعروا باليأس والإحباط؛ مبرر لهم أن يتجرعوا الغصّة وراء الغصة؛ مبرر لهم أن يلعنوا كل شيء بعد رؤية فلذات أكبادهم أكوام عظام بعد أمل الانتظار الذي تبخر. إنه الامتحان الأغرب والأكثر بؤساً وهولاً. عزاؤهم الصبر والإيمان والعمل الدؤوب؛ فما من حق يموت، ووراءه مطالب، وأن ما ارتُكب بحقهم لا يسقطه التقادم أو النسيان أو الاتفاقات؛ فالعدالة قادمة، ولو طال الزمن. كل فعل مُسَجَّل؛ وما عند الله إلا العدل؛ وما على صاحب الحق إلا أن يسعى. نيرون مات، وروما باقية؛ كسرى انتهى، وإيران بقيت؛ وهتلر رحل، وألمانيا منارة؛ ودكتاتورية السوفيت تبخرت، وروسيا بقيت؛ وشاوشيسكو دعسه أهل الثوار، و رومانيا عاشت؛ وكل من استباح سوريا من الداخل ومن الخارج، لن يكون مصيره مختلفاً.