طرف من مذكرات جهادي مهاجر إلى الشام

2021.12.06 | 05:12 دمشق

429_1.jpg
+A
حجم الخط
-A

أبو الفتح الفرغلي أحد أبرز شرعيّي «هيئة تحرير الشام». وبالمقارنة مع بعض نظرائه من المهاجرين من أرض الكنانة، كأبي اليقظان المصري (محمد ناجي) وأبي شعيب المصري (طلحة المسيّر)، يبدو الفرغلي أكثر أهمية. أولاً بسبب احتلاله مناصب عليا في قيادة الهيئة حتى الآن فيما غادرها الآخران، وثانياً بسبب تجربته الجهادية الطويلة التي يدل عليها كتابه، الذي وُزّع قبل ثلاثة أسابيع في مكتبات إدلب، وهو بعنوان «الطريق إلى الخلافة».

يجمع الكتاب بين السيرة الذاتية وبين «تاريخ الحركات الجهادية من الإخوان المسلمين إلى الجهاد الشامي»، كما يقول عنوانه الفرعي، وإن كان الهدف الثاني أشد وضوحاً. لكن غياب أي مذكرات خلّفها أحدٌ من عشرات آلاف الجهاديين الذين دخلوا البلاد وأثّروا في حاضرها بشكل حاسم يرفع من شأن الجوانب السيَرية للكتاب حتى وجود مصادر أفضل. ربما كان منها مخطوط الفرغلي «معضلة حركة أحرار الشام الإسلامية»، الجماعة التي انتمى إليها منذ أن عبر الحدود وحتى انضمامه إلى «هيئة تحرير الشام» عبر قاطرة «جيش الأحرار» كما سنرى، كما بانتظار أن يستكمل طلحة المسيّر مذكراته بعنوان «ليالي حلب»، المدينة التي قضى فيها سنوات منذ دخوله سوريا، وهو ينشرها متسلسلة. وكذلك فعل الفرغلي الذي بدأ ببث كتاب «الطريق إلى الخلافة» منذ عام 2019 في حلقات مصورة، أتمّها أخيراً وفرّغها ونشرها منقحة ومزيدة.

يقسم يحيى بن طاهر الفرغلي -وهذا اسمه الكامل- الحركات الجهادية التي سعت إلى إحياء الخلافة الإسلامية، إلى خمسة أجيال. أولها «جيل التنظيم الأم»، جماعة الإخوان المسلمين التي يقرؤها من زاوية «النظام الخاص»، وهو الجيب العسكري للجماعة، الذي قاتل الإنكليز وشارك في حرب فلسطين عام 1948 واصطدم بالسلطات المصرية. ويكاد الفرغلي أن لا يرى في الجماعة كلها سوى وسيلة وغطاء لهذا التنظيم الذي ما إن قررت إنهاء تجربتها فيه، عقب إعدام سيد قطب ومن معه في الستينيات، حتى خرجت من خط الحركات المجاهدة التي يرصدها الكتاب.

أما الثاني فهو «جيل التنظيم الجهادي الواحد». فبعدما حسم الإخوان خيارهم بالتغيير عبر الأساليب الديمقراطية ظهر النزوع الجهادي لدى مجموعات مصرية متتالية، أولها «شباب محمد» الذين عُرفوا بتنظيم الفنية العسكرية، ثم «الجماعة الإسلامية» التي تمايز عنها «تنظيم الجهاد» مؤذناً بظهور «جيل التنظيمات الجهادية المتعددة»، الثالث وفق مؤلفنا الذي يبدأ تداخل السيرة الشخصية عنده مع التاريخ انطلاقاً من هذه المرحلة، فقد انضم إلى «الجماعة الإسلامية» في 1994. وكان قد ولد عام 1976 لأب كان من الإخوان المسلمين، ولعل هذا أحد أسباب تساهل الفرغلي نسبياً في موقفه من الإخوان، خاصة أيام حسن البنا. ورغم أن المنتسب الشاب لم يمض سوى أقل من عام في الجماعة، وستة أشهر في جناحها العسكري من دون أن ينفذ عملية واحدة، قبض على الفرغلي في أثناء حملة أمنية واسعة وسجن لأكثر من ستة عشر عاماً كانت الأغنى في تكوينه.

مع نجاح ثورة يناير 2011 كان قد تبقى من السجناء الجهاديين بضع مئات سيخرجون تباعاً وبأشكال مختلفة كان العفو الصحي نصيب الفرغلي منها. ليفرج عنه ويستأنف سجالاً قديماً مع الإخوان المسلمين

فعلى التوازي مع انهيار العنف الإسلامي المصري وظهور الجيل الرابع وفق تصنيف الكتاب، «جيل الجهاد العالمي»، كان طالب السنة الثانية في كلية الهندسة قد غيّر اختصاصه إلى قسم السياسة في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، الفرع النظري الذي تمكن من دراسته من داخل السجن مع المؤبد الذي حُكم به. ثم نال الإجازة في الحقوق. كما حفظ القرآن وكثيراً من متون العلوم الشرعية وقرأ بعض مصادرها على شيوخ سجناء. ما مكّنه من التصدي للمراجعات التي طرحها قادة تاريخيون في مجلس شورى «الجماعة الإسلامية» وعملوا على ترويجها في السجون المتعددة التي ضمت عشرة آلاف من قواعدها. وهنا أخذ الفرغلي يناظرهم ويؤلف رسائل في الرد عليهم، وصولاً إلى تقديم استقالته من الجماعة بعد أن تيقن من استمرارها في «التراجعات» كما يسميها رافضوها، ولا سيما بعد أن عزز معارفه الشرعية بالدراسة المنتظمة في «المعهد العالي للدراسات الإسلامية».

مع نجاح ثورة يناير 2011 كان قد تبقى من السجناء الجهاديين بضع مئات سيخرجون تباعاً وبأشكال مختلفة كان العفو الصحي نصيب الفرغلي منها. ليفرج عنه ويستأنف سجالاً قديماً مع الإخوان المسلمين الذين يريدون أن يحكّموا الشريعة عن طريق الانتخابات. وهو سلوك يجزم أبو الفتح بمخالفته للشريعة لكن دون أن يكفّر الإخوان الذين يرى أنهم أخطؤوا بتأويلٍ ويُعذروا بجهلهم. فقد أخذوا، بعد سيد قطب، قراراً بأن يعيشوا دور الضحية. وقد تجلى هذا عندما انقلب عبد الفتاح السيسي على حكمهم وزجهم في السجون وظلوا على تجنبهم الجهاد وإصرارهم على السلمية.

لكن الفرغلي سيقرر السفر إلى السودان خوفاً من إعادة اعتقاله. ومن هناك ستبدأ صلته بالجيل الخامس الراهن، «جيل المناطق المحررة».

قبل ذلك كانت صورة الفصائل الجهادية في سوريا غامضة عنده، ولا سيما بعد الصراع بين داعش والنصرة. لكن اتصالاً مع مهاجر مصري سبقه إلى صفوف حركة أحرار الشام دفع الفرغلي إلى التقدم للحصول على التأشيرة من السفارة التركية بالخرطوم. ومن بين عشرات المتقدمين المرفوضين، للاشتباه بأنهم ذاهبون للقتال في سوريا، استطاع الحصول على الفيزا بعد إبرازه شهادة خبرة من مدرسة دولية عمل فيها لمدة وبطاقة عضوية نقابة المحامين وإنكليزيته الطليقة. وهكذا وصل إلى إسطنبول في منتصف حزيران 2014 لينطلق فوراً إلى سوريا ويلتحق بلواء دبابات يتبع أحرار الشام بريف إدلب. وذلك قبل أشهر قليلة من الانفجار الذي أودى بقيادات الحركة، الذي ينقل، مشككاً، أن نتائج التحقيق الداخلي حوله أشارت إلى أن برميلاً من نترات السليلوز، وهي مادة سريعة الاشتعال تستخدم في إطلاق قذائف الهاون، وجد في غرفة ملاصقة لغرفة الاجتماع، هو سبب التفجير الذي عزاه التحقيق إلى الإهمال. كما أجّلت تلك الحادثة انشقاقاً كان متوقعاً في الحركة بين جماعة حلب، بقيادة أبي يزن الشامي، الذين نفروا من السلفية الجهادية عقب ظهور داعش، وبين من يريد استمرار العمل تحت مظلة السلفية الجهادية التي رآها الفرغلي واضحة في كتاب أبي سارية «إضاءات على منهج الجماعة المجاهدة» الذي كان يُطبع في الجنوب باسم «فكر حركة أحرار الشام الإسلامية». وهو ما شجّعه على الانتماء إليها.

لكن الشرخ استمر، في أثناء قيادة أبي جابر الشيخ، بين المكتب السياسي للحركة ومكتبها الشرعي الذي صار بقيادة أبي محمد الصادق وعيّن الفرغلي شرعياً للحركة في قطاع الساحل معظم عام 2014، بالإضافة إلى توليه رئاسة مكتب الدراسات في المكتب الشرعي. وهو يلخّص التنافس بين الجناحين السياسي والشرعي في الأحرار وقتها بوصفه خلافاً بين من يريدون استمرار الجهاد وفق المنهج السلفي وبين تيار الأخوين لبيب وكنان النحاس الذي «يريد في النهاية أن نستسلم وأن نرضى بطريقة الإخوان في إدارة الأمور. أي في النهاية نظهر فكرة الديمقراطية -بطريقة أو بأخرى ليس شرطاً بالتطابق مع طريقة الإخوان- ليرضى عنا المجتمع الدولي ونندمج فيه».

ستسير هذه الخلافات بالحركة على طريق الشلل، كما يفصّل الكتاب قليلاً، وسيخرج منها رموز التيارين بتأثير موجات متقلبة، تاركين وراءهم بناء معطلاً وإن استمر كلافتة واسم. وفي غمرة هذه التجاذبات سيأخذ الفرغلي خياره مع التيار المتشدد الذي شكّل «جيش الأحرار» ككتلة سرعان ما وجدت طريقها إلى المساهمة في تشكيل «هيئة تحرير الشام» التي بدت عند تأسيسها، في أواخر كانون الثاني 2017، تنظيماً جامعاً يوحد الفصائل، قبل أن تقشّرها السنوات فتسفر عن طبعة جديدة منقحة لجبهة النصرة.

على كل حال، يسكت الفرغلي عن الكلام المباح منذ ذلك التاريخ، مبرراً باستمرار عضويته في الهيئة وشبهة الانحياز التي قد يُتهم بها نتيجة ذلك، فضلاً عن أن أحداث هذه المرحلة ما تزال تُصنع. لكنه يختم كتابه مؤكداً أن هذا الجيل، الذي تمخضت عنه نضالات الإسلاميين خلال قرن، هو ذروة العمل الجهادي، وهو أفضل جيل مر على الحركات الجهادية منذ بداية العمل لإحياء الخلافة الضائعة.

ولاؤه المعلن مراراً للجولاني لا يحول دون تصريحاته بأن للبراغماتية حدوداً، وأن استجابة الهيئة لشروط الواقع إنما هي تكتيكات مؤقتة ومحدودة على طريق إستراتيجي يهدف إلى تحكيم الشريعة

يرى الكثيرون أن الفرغلي صار مجرّد بوق مرقّع لقائده الجديد أبي محمد الجولاني، حاله كحال أبي عبد الله الشامي (عبد الرحيم عطون) ومظهر الويس والعراقي أبي ماريا القحطاني. لكن بنيته الشرعية المتماسكة وسيرته الجهادية تلقيان بظلال من الشك على هذا. وفي حين يبدو قليل الإفصاح عما يجري داخل كواليس الهيئة، التي يشغل مكاناً حصيناً كأحد عشرة في رأس هرم قيادتها؛ فإن ولاءه المعلن مراراً للجولاني لا يحول دون تصريحاته بأن للبراغماتية حدوداً، وأن استجابة الهيئة لشروط الواقع إنما هي تكتيكات مؤقتة ومحدودة على طريق إستراتيجي يهدف إلى تحكيم الشريعة واستعادة دولة الخلافة. وبناء على ذلك يبدو أن لحظة افتراقه مع زعيمه المتلاعب تلوح في أفق ما، وربما لن تكون سهلة على الطرفين. فرغم أن الفرغلي لا يقود كتلة قواعد داخل الهيئة إلا أنه بات يحظى بنفوذ رمزي يصعب تجاوزه فيها، كما أنه من أبرز الأسماء التي تقدّم لها تغطية «المهاجرين» كلما قررت ابتلاع جماعة جهادية وسجن قادتها من المقاتلين الأجانب الذين لم ينصاعوا للجولاني.