طبول الحرب الصامتة

2022.05.31 | 03:39 دمشق

uuu-730x438.jpg
+A
حجم الخط
-A

لم تتوقف طوال السنوات السابقة الحرب الطاحنة التي تدور رحاها بين أفرقاء المنطقة، حيث إن قادة أطراف النزاع الذي تتساقط الضحايا على طرفيه بشكل شبه أسبوعي، يعرفون ويدركون تماماً ماذا يعملون وماذا يفعل الطرف الآخر..

إسرائيل وإيران، تتبادلان اللكمات والضربات الأمنية، بشكل ثابت، بحيث تمر تلك العمليات الخاصة مرور الكرام بالنسبة لمشاهدي الأخبار، دون أن يتم إعلان بيان تبني العملية كما جرت العادة في العمليات الأمنية، ولكن نسبها إلى مجهول لا يعني انحسار معرفة من قام بها، أو لا يعني انعدام وصول الرسالة التي أرادها من قام بها، إلى الطرف المستهدف.

منذ سنتين على الأقل تشتعل إيران بحرائق وعمليات اغتيال صاخبة، ينسب الإعلام الإيراني معظمها إلى حوادث عارضة أو أخطاء مرتبطة بالفساد ونقص الأموال اللازمة للإصلاح، في محاولات مضحكة لتخطي الفشل الأمني المحيق بالنظام الإيراني، وقد تفاقم الأمر حتى وصل إلى خروج الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد إلى التصريح منذ فترة بأن "إيران تعج بالعملاء والاختراقات لا تتوقف نهائيا".. وقد أعلن هذا الأمر غداة التفجير الكبير للمفاعل الذري في نطنز، الذي يزعم الإسرائيليون أنه سيؤخر لفترة وجيزة عمليات تطوير السلاح النووي الإيراني..

إيران بالطبع لم تسكت وهي تملك من الشر والأذى قدرات هائلة قد توازي إسرائيل وأكثر، ولكن بطرق أقل تطوراً و أشد فتكاً بالبشر

حرائق في معامل لتوليد الكهرباء، ولمقار أمنية، اغتيالات كان آخرها اغتيال حسن صياد خدائي، الذراع اليمنى لقاسم سليماني، وأحد قادة الميليشيات في سوريا واليمن، وقد اغتيل في سيارته قرب منزله، وقبله بعام اغتيل العقل المدبر للبرنامج النووي الإيراني "فخري زاده" في عملية تشبه إلى حد بعيد فانتازيات أفلام جيمس بوند، حينما قام روبوت مُتحكم برشاش آلي بإطلاق مئات الرصاصات على سيارته عبر آلية التحكم عن بعد، والتعرف على الهدف عبر الأقمار الصناعية، ومن ثم قام الروبوت بتفجير نفسه وتفجير الرشاش..

إيران بالطبع لم تسكت وهي تملك من الشر والأذى قدرات هائلة قد توازي إسرائيل وأكثر، ولكن بطرق أقل تطوراً و أشد فتكاً بالبشر، فهي ترد، دوماً، ولا تتبع سياسة حليفها النظام السوري في الاحتفاظ بحق الرد، لكنها ترد عبر قصف المناطق الكردية في شمال العراق، أو تقوم بالرد في سوريا أو في لبنان، أو في اليمن، فهي تعلم جيداً أن المواجهة المباشرة مع إسرائيل وبالتالي مع الغرب قد تنسف نهائياً عمليات التفاوض في فيينا بينها وبين الخماسي المسؤول عن الاتفاق النووي، حيث تناضل بكل الأوجه من أجل الخروج من نير العقوبات الهائل، للعودة إلى الأسواق العالمية لتحقيق شيء من السيولة المادية تتيح لها دعم جيوشها وميليشياتها في المنطقة، مما سيزيد من معاناتها في مواجهة شعبها، فهي عالقة بين المطرقة والسندان، مطرقة الغرب، وسندان الغضب الشعبي من العقوبات وانخفاض القدرة الشرائية، وانعدام الخدمات الأساسية، وتداعي البنية التحتية في إيران..

ولكنها مع ذلك ترد، وتصعد، وتضع مبدأ الندية حيز التنفيذ على الدوام، ترد عبر تصعيد جبهة الحوثي في اليمن، ترد بقصف المواقع النفطية في السعودية، ترد بعمليات أمنية تقوم بها حماس في الأراضي المحتلة، ترد بضرب مواقع المعارضة السورية المسلحة، ترد بسحق المظاهرات الشعبية في بغداد، وبحملات الاغتيالات المرعبة في الشرق الأوسط.. ولكنها أبداً لا ترد بالمثل في إسرائيل..

في الأسبوع المنصرم، حدث اشتباك في البحر الأحمر حينما هاجمت زوراق مجهولة ناقلة نفط إيرانية، فتصدت لها قوات من الحرس الثوري الإيرانية، وهذا يعتبر تصعيداً كبيراً بين الطرفين، بحيث يخشى كل طرف من اندلاع مواجهة مكلفة بينهما، قد تقود إلى تغيير في قواعد الاشتباك المعمول بها منذ عقود بين الأطراف.. على قاعدة بقاء النظام الإيراني يضمن بقاء النظام الإسرائيلي، وأي تهديد للنظام في إيران سيعني زوال إسرائيل على حد تعبير قيادات في الحرس الثوري..

إذاً إيران، نظرياً تستطيع إلحاق أذى كبير بحق إسرائيل، والجميع يدرك هذا الأمر، بمن فيهم تل أبيب، وواشنطن وروسيا، ولكن توازن الرعب هو ما يطلبه الجميع، بمن فيهم الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما.. الذي دعا إلى تقاسم المنطقة بين إيران والسعودية وتركيا وإسرائيل..

في جبهات أخرى، تمارس واشنطن ذات اللعبة مع روسيا والصين، بحيث تتعاظم العمليات الأمنية والاقتصادية لتكون بديلاً عن المواجهات العسكرية، فالعالم المعاصر لا يتحمل حرباً جديدة، وأي حرب واسعة النطاق ستضع حتماً حداً جديداً للنظام العالمي الذي نعيش فيه، والكل يدرك هذه الفكرة، وكل من يتكلم عن تغيير في هذا النظام لا يدرك حجم الأهوال التي ستتفجر في محاولات تغييره، من انهيارات اقتصادية، ومجاعات وانتشار أوبئة، وانهيارات مالية وبطالة ومليارات البشر ممن سيعانون من انعدام الأمن الغذائي، والصحي، والتعليمي. ولنا أن نقارن حرباً محدودة بين روسيا وأوكرانيا كيف هددت اقتصاد العالم، وكيف أثرت على ارتفاع الأسعار في العالم كله، وبالتالي انخفاض القدرة الشرائية، وانعدام أمن الطاقة، وما سيتلوه من غضب شعبي، وسقوط حكومات وثورات شعبية، وانبثاق جديد للتيارات اليمينية، التي تغذي مفهوم المواجهة والكراهية والحرب، وصدام الحضارات الشهير، بين شرق وغرب، وشمال وجنوب..

إننا في هذا الكلام لا ندعو إلى الخضوع لهذا النظام الذي نعيشه ولكن، ينبغي علينا أن نكون في غاية الحذر حينما نطالب بتغيير الشبكة العالمية التي جعلت العالم مترابطاً مالياً وأمنياً واقتصادياً، فكارثة في الهند ستنعكس بقوة على كندا والعكس صحيح..

في زمننا هذا طبول الحرب لم تعد تقرع كتصعيد وتمهيد لاندلاع الحروب، بل باتت الطبول هي تلك الحرب الصامتة التي تستعرض فيها الأطراف قدراتها على أذية الأخر، فأي حرب مهما كانت صغيرة، بين الأطراف فإنها ستكون مؤذية جداً..

تنسيق أمني طويل يسبق التدخل العسكري، وتنسيق أمني وعسكري ودبلوماسي يرافق القوات لضمان عدم حصول أية تطورات تحرف المعركة عن مسارها

وهذا لا يعني أن حروباً لم تشتعل، أو تتفجر في كل مكان في هذا العالم، ولكن بتدقيق استقصائي، ندرك أن كل الحروب التي جرت في القرن الواحد والعشرين، قد أخذت موافقات وترتيبات أمنية بين الأطراف، وقد استخدم فيها مبدأ يستخدمه مطفئوا الحرائق، في تحديد مكان الحريق وحصره في بقعة ما، بحيث يتم تشذيب الأعشاب والأشجار حوله كي لا يمتد الحريق إلى خارج المنطقة المتفق عليها، ويستخدم الأميركيون تعبير "إدارة الأزمة لضمان عدم انتشارها".. وهذا ما حصل بين أذربيجان وأرمينيا، وفي أثناء العمليات الأمنية التركية ضد حزب العمال الكردستاني في شمال سوريا، وفي التدخل الروسي في سوريا، وفي أفغانستان مع الانسحاب الأميركي.

تنسيق أمني طويل يسبق التدخل العسكري، وتنسيق أمني وعسكري ودبلوماسي يرافق القوات لضمان عدم حصول أية تطورات تحرف المعركة عن مسارها، وهذا بالضبط ما يحاول الروس أن يقولونه في تسمية غزوهم أوكرانيا، حيث يصرون على استخدام تسمية (العملية العسكرية الخاصة) أي إنها ليست حرباً شاملة منفلتة المعايير، وإنما هي عملية مضبوطة، وقد أبلغنا المعنيين بأهدافها.

ببساطة طبول الحرب لن تدق في المدى القريب، ببساطة شديدة لأن الحروب كلها باتت أمراً خطراً على التركيبة العالمية، وتم استبدالها بالعمليات الخاصة، محدودة الأهداف، والتي لا طبول لها.