طائرات إليوشن في خدمة المسافرين السوريين

2021.06.12 | 06:02 دمشق

1019872247_406_682_2930_2048_1200x0_80_0_1_c1ef16b175d55aaef23203bd95f34f23.jpg
+A
حجم الخط
-A

الطائرة روسية عملاقة متينة، صنعت في سنة 1971 للشحن العسكري، ودخلت الخدمة بعد ثلاث سنوات من الرضاعة، صنع منها 960 طائرة، اشترت الصين أربعين طائرة إليوشن. الثوار الأفغان الذين تمت تسميتهم في الصحافة العالمية -  بما فيها الوكيبيديا - بالمتمردين الأفغان، لم يقدروا على إسقاط أي منها بصواريخ ستنغر، بسبب ثخانة جلدها، وسموقها وارتفاعها، لكنهم لله درهم، فقد أسروا طائرة أخيرا، وكانوا قد اكتسبوا خبرة في الطعن والنزال، فأجبروها على الهبوط داخل أفغانستان في أغسطس آب 1995 بطائرة أفغانية، وهي الحادثة المعروفة باسم طريف مزيج من الإنجليزية والأفغانية هو: إيرستان.

كاتب السطور لا يتذكر أنَّ سوريا البعثية أجلت رعاياها يومًا من مكان منكوب في العالم، فليس من مكان منكوب أكثر من سوريا والسوريون يجلون عنها

طلاب، ومرضى، وراغبون في الهجرة، يقصدون العاصمة لاستكمال وثائقهم، وإتمام إجراءات الهجرة، ولهم عزاء (وسلوى وإلهام وعبير)، أنَّ الروس استخدموها مرة في إجلاء قوات عسكرية، بل إن الصين استخدمتها في إجلاء رعاياها المدنيين من ليبيا، في أول مهمة بعيدة المدى للقوة الجوية الصينية، فمن يأكل الخفافيش لن يكابر على السفر في الصهاريج الجوية. كاتب السطور لا يتذكر أنَّ سوريا البعثية أجلت رعاياها يومًا من مكان منكوب في العالم، فليس من مكان منكوب أكثر من سوريا والسوريون يجلون عنها، مصر قامت بهذه الفضيلة، وهي تلاحق المجليين العائدين بسبب الكورونا، لانتزاع أجور الجلاء الوطني من جيوبهم.

هدير إليوشن يخرق جدار الصوت، قباعها (صوت الخنزير) سلاح لا ريبة فيه، زئيرها يصدع الجبال، ويصمُّ الآذان، وهي خاصة بنقل العتاد الحربي، ويقودها ملاحان روسيان، يخدمهم ثلاثة ضباط، وليس فيها مضيفات، وكلاء شركات الرحلات الجوية يعطفون كثيرًا على ركاب الطائرات، المسافر جوًا يحتاج إلى الرعاية والحنان، المسافر مثل الجنين، فكلاهما أي الجنين والمسافر  بين الأرض والسماء، وكان عبد الوهاب المسيري يسمّي نزعة الحدب على المسافر الجوي بالنزعة الرحمية، فالمسافر متكوّر في كرسيه، ممنوع من الحركة، مربوط بحزام الحبل السري، تخدمه المضيفات بالطعام والشراب والتسلية وسلوى وعبير وإلهام، إن أصيب بنوبة ذعر عارض.

ولا مضيفون، المضيف رجل مدني باسم، يرتدي زيّ حفلة أو عرس، وهذا لا يناسب الطائرة الحربية وبها مقاعد جانبية لكنها تطوى حتى توسع المكان، فالركاب يسافرون وقوفًا، المقاتلون لا يجلسون، ومن يضطر بسبب الشيخوخة والمرض إلى الجلوس على أرض الطائرة المعدنيّ، سيهبُّ واقفًا للدفاع عن حياته، لأن الأوكسجين يقلّ في الأسفل، فكأنه يلتمس النجاة من الغرق. الموسيقا الوحيدة التي تقدمها إليوشن هي هدير المعادن الغاضبة.

 الرحلة سريعة، مدتها ساعة، لكن هذه الساعة أطول من قرن، لشدّتها وبأسها، تفترس هذه الساعة يومًا كاملًا، يحترق في الانتظار تحت نيران الأعين البوليسية المرتابة، والركاب طلاب أو أسرى حرب أو معتقلون أو مرضى، والمرضى يقصدون العاصمة، ففيها الرئيس، وحراس الرئيس، ومفتي الرئيس، وفيها أطباء كثر، وفي العاصمة آلات طبية حديثة، غير متوافرة في المناطق النائية.

في كل طائرة من طائرات الركاب أكياس هوائية، موصولة بأنابيب تنبثق من جيوب خفية من الأعلى، عند حدوث عطل أو انكسار في جسم الطائرة، تمدّ القرب الهوائية البرتقالية بالهواء، لكن ليست في إليوشن، يحتاج مسافر إليوشن إلى غلاصم من غير طوارئ، فلا ضيافة في شوارع إليوشن، ولا بسطات لبيع البضائع المهربة، ولا مراحيض في الطائرة، فهي طائرة شحن، كلها ساعة، ومن كان مريضًا أو على سفر، يستطيع أن يحبس نفسه عن الشراب والطعام قبل نصف يوم، حتى لا يهين نفسه إذا حقن أو حقب، لن يشتهي الطعام والشراب من يسافر على متنها فهي تسدّ النفس، وحسْبُ ابن آدم لقيمات أكلها في بيته يقمن بها صلبه.

لم يبق من طائرات الخطوط السورية سوى طائرتين، وهي رحلات كُتبَ عن سوء خدمتها الكثير في أيام الزمن الجميل، إليوشن لها رحلتان كل يوم، وقد يغيب أحد القائدين فيكتفى برحلة واحدة، والمسافرون يحضرون ويحجزون، فلا حجز عن بعد، والسفر قطعة من العذاب، حتى إنّ الإنجليز أخذوا لفظ السفر، وجعلوه الألم في لغتهم: سافريننغ، والحجز ليس سهلًا، مع أن سوريا هي بلد الحواجز، الحجز شخصي، لا يوجد حجز إلكتروني أو هاتفي.

احتجّت أوروبا على ضوضاء إليوشن، فتمّ كتم صوتها بتحديث صناعي، لكن صوتها مريع. هي صهريج جوي مثل صهريج رواية "رجال تحت الشمس" في رواية غسان كنفاني الشهيرة التي صارت فلمًا اسمه "المخدوعون".

سعر تذكرة الرحلة يعادل نصف أجر شهري لموظف سوري، أي ما يعادل عشر دولارات، ويستطيع المسافر أن يصطحب معه ما يشاء من أمتعة؛ سجادات، برادات، صوبات، قازانات حمام، بهارات، إبر بابور، شحاطات بلاستيكية. يستطيع أن يصطحب معه أثاث بيت إن شاء، فالطائرة قادرة على حمل أربعين طنًا من الآلام، وهي تتسع لألف راكب وقوفًا، ويستطيع الراكب المريض أن يستلقي إن شاء، لكنه لن يفعل، وإن ألجأته الحاجة والتعب إليه، فهو مهين، وسيموت خنقًا أو دهسًا تحت الأقدام، فالراكب بحاجة إلى أجهزة تنفس أو غلاصم.

ذوو الشهداء معفون من الأجرة من الدرجة الأولى، والعساكر - حماة الديار-  لهم حظوة السفر المجاني وقوفًا طبعًا، ولا تُلزم شروط الرحلة الركاب بالكمامات، فلن يستطيع الراكب التنفس إن كُمم، والروائح في الطائرة غير مستحبة، فكثير منهم مرضى وعلى سفر، ومعلوم أن المرضى تتعطل صمامات أجهزتهم الهضمية، فتفتح وتغلق على غير موعد بحسب المطبات الجوية، وقد اصطحبت سيدة كرسيًا بلاستيكيًا لابنها، وحازت مكرمة الحجز في غريفة قائد الطائرة برسوم زائدة مدفوعة لملاح الطائرة، فيرست كلاس، درجة رجال الأعمال، ولا أحزمة في الطائرة، ولا أحزمة في سقف الطائرة يستعين بها المسافر على الوقوف ووعثاء السفر، فالركاب يتساندون في المطبات الجوية ببعضهم، وأحيانًا يتمسّكون بأمتعتهم وأسرّتهم الطافية في الطائرة. قصَّر النظام السوري في تعبيد الطرق البرية في الجزيرة لأنها غير سياحية مثل قرى الساحل بحسب تسويغات الصحافة، ولم يكن الجو بأحسن حالا من البر.

يحضر الركاب في الساعة التاسعة، ويعبرون الحواجز وهم يحملون هوياتهم، وكأنها رايات استسلام، ويجتمعون في ساحة، تحت الشمس أو المطر، ثم ينادى على الأسماء عبر بوق من غير إلزام للركاب بالحلاقة على الصفر، وانتعال البوط العسكري، وبعد أن تجتمع الفرقة الناجية في الصالة الموحشة، تفحص الحقائب بالأشعة التي تستخدمها الثعابين في صيد الفرائس، وهي الأشعة  فوق الحمراء، ثم يدخل الركاب إلى صالة الديجتال، فيجري تدقيق الأسماء بواسطة كومبيوتر فحصًا رقميًا، ومن يُضبط متلبسًا باصطحاب الدخان والعملة الصعبة يحرم من السفر ويخسر ثمن رحلته، ولا حديث عن المشروبات الروحية، فالمسافرون مسلمون، وإن كثرت فيهم الردّة التي تشجع عليها حكومة الإدارة الذاتية المعادية للإسلام، وكانت قد حرّمتْ بفتوى أميركية الزواج من أكثر من اثنتين، بل حرمت الزواج  حتى من واحدة من غير فتوى، فمن يستطيع الزواج في هذه المحنة.

المسافر من القامشلي إلى دمشق، سيجد نفسه في دمشق، وليس في حلب كما كان يحدث على رحلات الخطوط الجوية السورية

روسيا هي ثاني أعظم دولة سلاحًا في العالم القديم، عظمتها في قنبلتها النووية، لكنها من العالم الثالث عيشًا، بل إن باكستان أفضل منها في حقوق الإنسان، فباكستان تغيّر رؤساءها، وتقوم فيها مظاهرات عملاقة. وقد ينبري لنا أريب ألمعي فيقول: إن سوريا في حالة حرب، وإليوشن حل مؤقت إلى أن يعبر الأسد مرحلة المئة يوم الأولى من مدّته الرئاسية الثالثة، حتى تتوضح له الطريق، فيتدارك الأمر، ويجعل سوريا جنة سويسرية!

نعيد الأريب الألمعي إلى تقارير كتبها ركاب عن رحلات الخطوط الجوية السورية، ومضيفاتها المتوحشات، ومقاعدها المحروقة، ووجباتها الفاسدة، وسرقات الحقائب والهدايا، ودلف سقف الطائرة على الركاب، وسنجد أنَّ إليوشن تفضل طائرات الخطوط الجوية السورية بدرجة، وهي أنَّ المسافر من القامشلي إلى دمشق، سيجد نفسه في دمشق، وليس في حلب كما كان يحدث على رحلات الخطوط الجوية السورية.

اعترف الروس أنهم جربوا كل الأسلحة في الشعب السوري المعارض، أما "المخدوعون" غير المعارضين، فيكرمون "بالسفرينغ" و"الرحلينيغ" على متن رحلات إيرستان.

كلمات مفتاحية