(طاء) الوطن و(ألف) البلاد الطويلة

2021.11.24 | 05:16 دمشق

lmadha-2.jpg
+A
حجم الخط
-A

قبل أيام جمعني مجلس بسيدة مصرية تعمل في إحدى المنظمات الدولية التابعة لهيئة الأمم المتحدة، كان الحديث يدور عن تنقلها في عملها وانطباعاتها عن طبيعة الشعوب التي قابلتها خلال عملها منذ سنوات طويلة وحتى الآن، التفتت إليّ وقالت: لم أر شعبا لطيفا وكريما وطيب المعشر وبالغ الترتيب والذوق والنظافة مثل الشعب السوري، أستطيع أن أقول بكل ثقة، إن الشعب السوري يتفوق على باقي الشعوب العربية بمراحل من حيث الوعي والثقافة والتعليم، قلت لها: يبدو أنك زرت سوريا قبل 2011، فأجابتني زرتها ثلاث مرات قبل هذا التاريخ وزرتها، بحكم عملي مرتين بعد 2015، وأكملت: أعرف موقفك جيدا من النظام لهذا سأخبرك أنني، وبحكم عملي، التقيت بشرائح عديدة من السوريين، ودخلت إلى المناطق المحاصرة، جلست مع أهل تلك المناطق، ورأيت من اللطف والكرم والنظافة ما يدهش، رغم أنهم في أسوأ ظرف يمكن أن يعيش به بشر، وذهبت أيضا إلى مناطق تابعة للنظام وسكانها يصنفون مؤيدين له، ووجدت نفس الصفات التي وجدتها لدى سكان المناطق المحاصرة من قبل النظام، وقابلت طبعا مسؤولين في النظام، وزراء وغيرهم، أردفت: أنتم شعب واسع الاطلاع والثقافة والتحضر، كيف يحدث لكم ما حدث كله؟!

يتحدث المصريون عموما، عن الوجود السوري في مصر، ثمة صفات تسمعها من غالبية المصريين عن السوريين الموجودين في مصر: النظافة والاحترام واللطف وحسن المعشر والأناقة والجدية والالتزام وعدم الاتكالية وطبعا مديح المطبخ السوري والمطاعم والبقاليات السورية هو مديح لا يتوقف من المصريين حين يعرفون أنك سوري، "يعمل السوري في كل المهن المتاحة كي لا يبقى عاطلا عن العمل، وفي كل المهن التي يعمل بها يتفوق لفرط التزامه وجديته وترتيبه وأمانته" هذه الجملة التي فيها الكثير من المديح للسوريين يمكنك أن تسمعها من كثير من المصريين، يمكن أيضا أن تقرأها متكررة على وسائل التواصل الاجتماعي، حين يشتم عنصري مصري الوجود السوري في مصر، "مؤسف أن يحدث ما حدث لكم، لا تستحقون هذا المصير"، ربنا يصلح الحال ويرجع سوريا أحسن مما كانت، هذه أيضا جملة تسمعها أنت السوري في كل مكان في مصر، ويمكنك أن تميز أنها نابعة من القلب وليست مجرد جملة للمجاملة.

كل ما تتصف به الآن هو نتاج نشأتك وجذورك وجيناتك ومحيطك وتجاربك وأصدقائك ومكابداتك وتفاصيل مشتركة مع آخرين وأخرى لا يعرفها سواك

لا تستطيع وأنت تسمع مديح المصريين الدائم عن السوريين سوى أن تشعر بالفخر، سوى أن يعود إليك ما تحاول نسيانه كي تتمكن من العيش: أن جذرك هناك لا يمكن لأي شيء أن يقطعه، مهما حاولت ذلك، ومهما ادعيت من قدرة على النسيان والتحرر من الانتماء، هناك ما يجعلك مشدودا نحو ذلك المكان إلى الأبد، أنت الذي عشت ما يقارب الخمسين عاما في ذلك المكان، كل ما تتصف به الآن هو نتاج نشأتك وجذورك وجيناتك ومحيطك وتجاربك وأصدقائك ومكابداتك وتفاصيل مشتركة مع آخرين وأخرى لا يعرفها سواك، أنت ابن تلك البلاد مهما حاولت النكران والتجاهل، وإلا ما الذي يجعل لحم قلبك يتفتت من الألم على ما حدث ويحدث هناك؟ مالذي يجعل روحك تحلق كفراشة كلما سمعت مدحا عن الشعب الذي أنت منه؟ ما الذي يجعلك تبحث عن آخر الأخبار صباح كل يوم أول استيقاظك، كما لو أنك تنتظر خبرا معجزة ينقذك من العجز واليأس، وينقذ البلاد التي تحبها كما لو كانت هي مركز القلب منك.

البلاد.. أحب مصطلح (البلاد) الذي يستخدمه الفلسطينيون حين يتحدثون عن فلسطين، فيه من الحنان والحنين والانتماء أكثر بكثير من مصطلح (الوطن)، الوطن مصطلح ينفع للشعارات، الوطن يلزمه مواطنون، نحن في سوريا لم نكن يوما مواطنين، كان مصطلح الوطن فائضا عن حالتنا، كمن يرتدي ثيابا أكبر من حجمه بكثير، لا تصلح له ولا هي مريحة ولا يراها جميلة ولائقة عليه، (البْلاد) بالعامية الفلسطينيةـ بتسكين الباء ومد اللام، اللام الممدودة التي تسحبك نحوها، تجرك من قلبك إلى هناك وأنت تلفظها، بينما (الوطن) الذي لا عامية له تحسم طاؤه الأمر، تبقيك مكانك حيث أنت الآن، تقف بينك وبينه، كمرسوم رئاسي يسمح لك بالبقاء وبالعودة بشروط يضعها هو، بظروف يتيحها لك هو، بمساحة يحددها لك هو، مساحة غالبا ما تكون ضيقة وقصيرة قصر لفظ حرف (الطاء)، البلاد ليست ملك أحد سوى من يحبها، الوطن ملك حكامه ومراسيمه. أحب تلك البلاد وأحن إليها، أما ذاك (الوطن) فلا تربطني به أية صلة.

كلما سمعت من مصريين جملة (السوريون لا يستحقون هذا المصير) أفكر كم أحب السوريون سوريا حتى تحولت إلى مقبرة لا تتوقف عن طلب المزيد! أحببناها حتى الموت، حتى النكران، حتى الهجر، حتى الهروب، أحببناها لأننا أصلا شعب يموت من شدة الحب، حتى تعبيرنا عن الحب مرتبط بالموت والقبر والفناء، وكأن الحب والموت متعادلان لدينا، على الأقل هذا ما ظهر خلال السنوات العشر الماضية، بعيدا عن المرتزقة الذين ماتوا وهم يحاربون مقابل المال أو مقابل منفعة شخصية، فإن كل من مات، فقد مات من فرط حبه لسوريا، أو هكذا على الأقل مات وهو يعتقد، هل يوجد حب أبلغ من أن تموت وأنت تظن أن موتك في سبيل (الوطن) وأنت لا تدرك الحقيقة؟

كلما سمعت من المصريين مدائح عن السوريين أشعر بالحنين إلى تلك البلاد، لكنني سرعان ما أتذكر كم أذاقنا الوطن من الهوان والخوف

كلما سمعت من المصريين مدائح عن السوريين أشعر بالفخر والانتشاء ثم سرعان ما أتساءل: كيف يرانا الآخرون هكذا، ونحن لا نستطيع رؤية أنفسنا كما يروننا؟ خلال السنوات العشر الماضية أخرجنا أسوأ ما يمكن أن يخطر في البال، أخرجناه ضدنا، ضد أنفسنا، ضد سوريا، أو لنقل أننا أخرجناه ربما ضد (الوطن) الذي تقف طاؤه كالسكين بيننا وبينه، وكأن الجريمة التي قوبل بها جمال السوريين في الأشهر الأولى من 2011 أخرجت كل ما تم السكوت عنه خلال عقود طويلة، عقود الخوف والرعب والصمت والإقصاء والرضوخ، عقود قول (النًعم) وكتم (اللا) في النفوس، حتى بات الجميع يعتنقون مبدأ التقية، من نحن حقا؟ ما هي حقيقتنا؟ هل هي ما يراه الآخرون فينا، أم ما نراه في أنفسنا؟ أم أننا لشدة ما تماهينا مع الخوف أصبحنا حقيقيتين حين قررنا التمرد عليه؟!

كلما سمعت من المصريين مدائح عن السوريين أشعر بالحنين إلى تلك البلاد، لكنني سرعان ما أتذكر كم أذاقنا الوطن من الهوان والخوف، أتذكر كيف وضعنا الوطن بين خيارين (قاتل أو مقتول) كيف أصبحنا الاثنين معا: القاتل والقتيل، فأصمت وأحلم ببلاد (ألفها) ممدودة وطويلة تتسع لكل تناقضاتنا واختلافاتنا لكنها تحمل الحقيقة الوحيدة عنا مهما كانت هذه الحقيقة.

كلمات مفتاحية