ضبط التنوع الإثني واللغوي: الحالة الصينية

2021.09.25 | 06:38 دمشق

166862.jpg
+A
حجم الخط
-A

لا تبدو معسكرات الاعتقال الصيني، المسمّاة مخيمات إعادة التربية والتعليم، التي تستهدف الإيغور في الصين أمرا مفاجئا لدى المطلعين على التاريخ الصيني المعاصر، ولاسيما ما يتصل بسياسات الحزب الشيوعي نحو الأقليات الإثنية والدينية، منذ وصوله إلى السلطة في نهاية الأربعينيات من القرن العشرين. ولكن المفاجئ أنها تحولت إلى سياسة ثابتة في إدارة منطقة شينجيانغ التي تقطنها أقلية الإيغور.

على خلاف كثير من الدول التي اعتمدت سياسة الإنكار لمواجهة التحديات الداخلية الناجمة عن الانقسامات والتنوع الإثني، والتي ركزت على تجاهل التعددية اللغوية، من خلال فرض لغة واحدة، وعدم الاعتراف ببقية اللغات في كثير من الأحيان، فإن الحالة الصينية نحت باتجاه آخر، وهو الاعتراف بهذا التعدد لا بقصد تشجيعه والمحافظة عليه كما يتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى، وإنما بقصد السيطرة عليه، في مسعى لإضفاء الطابع المؤسساتي على التنوع وتوجيهه وضبطه. وقد ساعد على ذلك عوامل كثيرة، إذ واجه الحزب الشيوعي في بداية الخمسينيات تحديات كبيرة، كالحرب الكورية، والانهيار الاقتصادي الذي أعقب كلا من حرب التحرير ضد الاحتلال الياياني، والحرب الأهلية بين الوطنيين والشيوعيين. فاختار الحزب في تلك المرحلة انتهاج سياسة تصالحية مع مختلف الإثنيات والهويات الثقافية، فاعترف بأقليات لا يتجاوز عدد أفرادها في بعض الحالات عشرة آلاف شخص، ووصل عدد الجماعات المعترف بها رسميا إلى خمس وخمسين أقلية، متقدما في ذلك على نظام كاي شيك الوطني الذي اعترف بوجود خمس جماعات إثنية، ما عدا قومية الهان التي تشكل أكثر من تسعين بالمئة من الشعب الصيني.

لقد كانت السياسة غير المعلنة، من رعاية عدد كبير من الهويات الإثنية، تسعى إلى استباق أي محاولة من قبل تلك الإثنيات للبحث عن الانفصال

وفي سبيل إدارة هذا التنوع، أنفق الحزب الشيوعي في تلك المرحلة كثيرا من الجهد والمال للاحتفاء بالأقليات، وهو استثمار يبدو مثيرا للدهشة والاستغراب في ظل الأزمات السياسية والاقتصادية التي كانت تعانيها الصين. فقد أرسلت الحكومة الصينية الآلاف من الباحثين وعلماء اللغة والاجتماع إلى مناطق الأقليات، بقصد القيام بمسح لغوي واجتماعي، ربما كان الأكبر من نوعه في التاريخ، وكان من نتائجه أن أوجد علماء اللسانيات أنظمة كتابية للغات المنطوقة التي لم تكن لديها أبجديات من قبل. ووصل الاحتفاء بالتنوع إلى تضمين العملة الصينية بعضا من هذه الأبجديات كالإيغورية.

لقد كانت السياسة غير المعلنة، من رعاية عدد كبير من الهويات الإثنية، تسعى إلى استباق أي محاولة من قبل تلك الإثنيات للبحث عن الانفصال، أو إقامة كيان قومي خاص بها، فرعاية الدولة لتلك الأقليات لا تبقي لها أي ذريعة للمطالبة بحق تقرير المصير. فالهدف البعيد الذي وضعته القيادة الصينية هو تفكيك تلك الهويات الإثنية على مدى زمني طويل، و التقليل من أهميتها في الحياة اليومية للفرد، حتى تتلاشى في نهاية المطاف، فلا ضير من بقاء التيبتيين والإيغور  والمياو...إلخ، ولكن لا ينبغي أن تعني هذه العرقيات شيئا إلا في الاحتفالات الاستذكارية لهويات لا تؤثر في حياة الأجيال الجديدة.

أثبتت الخطة فعاليتها فيما يتصل ببعض الأقليات الصغيرة العدد نسبيا، فلغة المانشو على سبيل المثال أصبحت شبه منقرضة حاليا، بعد أن تحولت الأجيال الجديدة إلى الكلام باللغة المندرينية، لغة الهان، القومية الأكثر عددا في الصين. أما مقاطعات مثل يونّان وقويتشو وقوانغشي فقد شهدت عمليات تطهير ثقافي واسعة، تحولت بعدها إلى مناطق مختلطة لغويا وإثنيا.

ولكن تطبيق خطة الاحتواء هذه، كما أسلفنا، لم يتسم بالسلمية، فقد أظهر احتلال التيبت، وقمع حركة الاحتجاجات فيها عام 1959م، المدى الذي يمكن أن يصل إليه عنف السلطات الصينية بغية المحافظة على سيطرتها. ووصلت موجة القمع إلى ذروتها في أثناء الثورة الثقافية، إذ دمر المتعصبون الماويون المساجد، وفجروا المعابد الهندوسية في التيبت، مثلما هاجموا كل من يرتدي الملابس التقليدية الخاصة بالأقليات، مع أن الأمانة تقتضي الإشارة إلى أن القمع طال كل ما له بالتقاليد القديمة حتى تلك الخاصة بقومية الهان.

لكن ما يحدث في منطقة شينجيانغ ذات الأغلبية الإيغورية المسلمة أن حملة الاعتقالات غدت هي السياسة الرسمية للدولة في إدارة الإقليم، بعد أن كانت موجات العنف السابقة قصيرة نسبيا، تعود بعدها السلطات الصينية إلى الاحتفاء بالتنوع وتحييد الهوية في المجال العام.

لكن ظهور هذا الشكل العنيف واستمراره يعود في جزء كبير منه إلى أسباب اقتصادية، فقد راهن الحزب الشيوعي في إدارة التنوع الإثني على محاولة ردم الهوة بين الأغنياء والفقراء، فبحسب إحصاءات البنك الدولي، غادر أكثر من 800 مليون صيني دائرة الفقر المدقع في العقود الماضية.  ولكن حالة اللامساواة اتسعت بين مناطق الهان الساحلية ومناطق الأقليات الداخلية، التي تركز فيها أيضا الكثير من الأعمال ذات الدخل المرتفع بيد المهاجرين من الهان، الأمر الذي زاد من شعور الأقليات بالغبن وانعدام المساواة. ووصلت حالة الاستياء إلى قومية الهان نفسها، بسبب تبني نسخة مشوهة من الرأسمالية. ولكن هجوم محطة القطارات في كومنمينغ عام 2014م جاء بمثابة الذريعة التي استغلتها السلطات الصينية لتوجيه هذا الاستياء نحو أقلية الإيغور التي غدت بمثابة "كبش فداء" لامتصاص الاستياء.

هذا التحول في سياسة الحكومة الصينية نحو إقليم شينجيانغ لن يقتصر على أقلية الإيغور، بل سيشمل كل الأقليات التي ليس لديها نزوع انفصالي، أو هويات عابرة للحدود، ذلك أن الرأسمالية الصينية حولت الهوية الإثنية إلى شكل من أشكال السلع وأداة للحصول على الثروة، مثلما أعطت الهوية الإثنية القدرة على مقاومة سياسات الحزب الصيني الرامية إلى دمج الأقليات بأكثرية الهان.

لا يبدو، إذن، أن الحملة على الإيغور المسلمين ستخف أو تنتهي في المدى المنظور، لأن هذه السياسة الجديدة تتداخل مع عوامل أخرى، من بينها مبادرة الحزام والطريق التي تمر بإقليم شينجيانغ، ونهاية نموذج دولة واحدة بنظامين، الذي أصبح بحكم الميت في هونغ كونغ، والتغير المناخي الذي سيجبر الحكومة الصينية على توفير أمكنة لسكن المهاجرين إلى المناطق الداخلية، بسبب ارتفاع مستوى المياه في دلتا نهر زهوجيانغ ذات الكثافة السكانية العالية.

مشكلة الأنظمة الشمولية أنها لا تقبل إلا صوتا واحدا، يشبه ذلك الصوت الذي تصدح به آلاف الحناجر في قاعات المؤتمرات العامة للأحزاب الشمولية

إن سياسة الاعتراف بالتنوع الإثني التي انتهجتها الصين سابقا أصبحت من الماضي فيما يبدو. وفي ضوء الحملة على أقلية المسلمين الإيغور في إقليم شينجيانغ، فإن الأفق يبدو قاتما، فالحملة أصبحت نمطا راسخا في إدارة الإقليم، وقد تطال في القريب الأقاليم الأخرى التي تتمتع بالحكم الذاتي.

مشكلة الأنظمة الشمولية أنها لا تقبل إلا صوتا واحدا، يشبه ذلك الصوت الذي تصدح به آلاف الحناجر في قاعات المؤتمرات العامة للأحزاب الشمولية، ممجدة الوطن والحزب والقائد. ببساطة، فإن تلك الأنظمة تقف ضد الطبيعة البشرية القائمة على التنوع.