ضابط الأمن والكتاب

2020.10.27 | 00:00 دمشق

homs_syria_checkpoint_0.jpg
+A
حجم الخط
-A

منذ أكثر من عشر سنوات، وبعد عودتي إلى مدينتي حلب من مؤتمر علمي خارج البلاد، ونتيجة عدم التزامي بما طُلب مني مراراً وتكراراً إثر كل مؤتمر أشارك فيه، أي أن اضع "تقريراً" كاملاً للجهات المعنية "بما أنني رجلٌ وطني وتهمني مصلحة الوطن" كما كان الطالبون يقولون، تم استدعائي إلى الإدارة المركزية لفرع أمني يُحسب له ألف حساب في دمشق.

وعلى الرغم من أنني تعودت، بعد كل دراسة أنشرها أو محاضرة ألقيها أو مؤتمر أحضره، أن تتم دعوتي إلى "زيارة" فروع حلب الأمنية على تنوعاتها وشرب فناجين من القهوة والشاي، وبالتالي فقد صارت لدي شبه مناعة من الخوف إن كان محلياً، فقد أخافني الاستدعاء الدمشقي فعلاً هذه المرة. ويبدو أن خوفي هذا لم يكن غير مبرر، ففي اليوم التالي، توجهت إلى الفرع الحلبي لهذه الإدارة وقابلت مسؤوله الأكبر، والذي والحق يُقال، كان قلقاً من هذا الاستدعاء وأبدى استغرابه كيف لا يتم تكليفه بإجراء "الحوار" معي. وبناء على ذلك، نصحني بأن أبحث عن "واسطة" تخفف من وطئ ما ينتظرني في دمشق قائلاً: "يبدو أنو شغلتك كبيرة".

تواصلت مع عدد من الأشخاص أحدهم صديق لي لديه رابط عائلي مع مدير الإدارة المركزية، أي الرأس الكبير، سائلا المساعدة وإن أمكن كف البلاء ونسيان الأمر وطي الملف قبل أن أطوى أنا. فطلب الصديق أن أمنحه اللازم من الوقت للاتصال والتقصي، ليعود بعد ساعات محبطاً طالباً مني أن أذهب فلا هو ولا قريبه، أي مدير الإدارة، استطاعا أن يعفياني من هذا الواجب "الوطني" المرعب. وقد نصحني صديقي بأن لا أبرز برقية "الاستدعاء" التي في حوزتي على الباب الرئيسي للإدارة، لأنني إن فعلت، فسألقى نصيبي من الضرب والركل قبل أن يعرف المعنيون عن سبب وجودي أمامهم. ويبدو أنه تقليد تراثي لا حياد عنه. فما الحل؟ لقد توصلت الأدمغة أخيراً إلى أن أصرّح بأن لدي موعداً مع مدير الإدارة، الذي سرعان ما أرسل مدير مكتبه لتلقفي حماية لي من ترحيب زائد من هذا أو ذاك لربما مروري بينهم منفرداً كان سيمنحهم فرصة التمرن على الملاكمة.

دخلت مكتب المدير لأبحث عنه لما لأبعاد المكتب من مسافات ظاهرة ومخفية مليئة بالمقاعد الوثيرة المصفوفة بطريقة عسكرية كما الهواتف على طاولته في عمق المكان. لا ورقة ولا كتاب ولا حاسوب ولا حتى قلم. وبدأ العد التصاعدي لفناجين القهوة والشاي، وأحد هواتفه يرن، وهو يجيب بهدوء قائلا لمحدثه: ريثما ينتهي من شرب القهوة سيكون عندك. فأفهم بأن المكلف باستدعائي متحفز لرؤيتي ويحث المدير على تمريري له بأسرع ما أمكن. وكان له ما أراد، واستبقاني المحقق في مكتبه البعيد عن المدير لساعات طوال سألني فيها عن تعريفات الدولة، الوطن، السياسات العامة، المجتمع المدني، العلاقات الدولية، وكأنه يريد درساً مجانياً. وعندما انتهيت من لعب دور المعلم، نظر لي ببرود منوّها بأنه حاصل على الدكتوراه في العلوم السياسية. ومن ثم أغدق علي بهدية من الحلويات الدمشقية على اعتبار أننا صرنا "أصدقاء" مهنة.

ولما لاحظت من مستواه الثقافي والعلمي الرفيع، وقبل أن أخرج من مكتبه، فقد شعرت بأنني يمكن أيضاً أن أهديه كتباً يضمها إلى مكتبته الضخمة المحيطة بنا من كل حدب وصوب. فأخرجت من حقيبتي كتابين، أولهما طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد (...)، والثاني، كان كتاباً يُماثله حجماً عن تاريخ الأندلس. فاستقبل الهدية "بحرارة" الفروع الساهرة على راحة الوطن. وأخذ وقتاً يتفحصهما ويقلب صفحاتهما ويُعيد النظر مرات ومرات لكليهما. قلقت، وخفت، وبدأت سوائل عدّة تتدحرج على مساماتي المتحجبة والسافرة. وإذ به يلتفت بطريقة الفارس المغوار قائلاً: "أجبني بصراحة على سؤال مهم جدا"، فبدأت أتوقع بأن سؤاله سيعود بنا إلى المربع الأول من التحقيق بعد أن حسبت أنني انتهيت من التجربة القاسية بتبادل العطايا. فتابع قائلا حرفياً: "الكتابان من نفس الحجم ولهما نفس عدد الصفحات، ولكن..". ومضت لحظات من الصمت كانت كافية لتزيد من توتري وترقبي لما هو أعظم، فنظر لي بعينين تلمعان "ذكاءً" مضيفاً: "ما هو تفسيرك أن كتاب طبائع الاستبداد أثقل وزناً من تاريخ الاندلس؟".

فوجئت حقاً بالسؤال الوجودي العميق حينها، وبدأت أبحث عما ورائيات هذا السؤال وعن بعده الأعمق من ظنوني الشاذة بهذه النخبة الساهرة على راحة وأمان وقيلولة الوطن. وبدأت سيناريوهات الجواب تتزاحم في ذهني الجامد والمتخشب، حتى توصلت لإجابة ظننتها تحاكي ذكاءه وفطنة سؤاله وقلت مترقباً ردة فعله: "ربما لأن محتوى كتاب الاستبداد أثقل من محتوى كتاب التاريخ"؟ فما كان منه إلا أن سخر من جوابي بصوت يشبه مواء القط المستيقظ جوعاً، ليُضيف سيادته: "الحقيقة هي أن نوع ورق الكتاب الأول هو أكثر وزناً من نوع ورق الكتاب الثاني". وانفجر كعبوة ناسفة ضاحكاً على طرفته التي أبكتني ندماً على اعتصار أفكاري بحثاً عن جواب "ذكي" لسؤال يليق بضابط أمن.

كلمات مفتاحية