صورة سوريا المنقبة!

2022.09.12 | 06:01 دمشق

صورة سوريا المنقبة!
+A
حجم الخط
-A

أظن أن وزير الخارجية الروسي لم يكن سيطلب من حفل تخرج طلاب جامعة الشام في مدينة اعزاز أنسب من الصورة المرفقة، ليرفعها في وجه نظرائه من الغربيين، مذكراً بأنها صادرة رسمياً عن مؤسسة مدنية لا عن فصيل، وأنها ملتقطة في مناطق سيطرة المعارضة المعتدلة لا حكومة الإنقاذ المرتبطة بهيئة تحرير الشام.

تشغل الصورة أو مقطع الفيديو موقعاً مركزياً في عصرنا. فتصنع الرأي العام، وقد تحل مكان بحث أو تحقيق أو استطلاع رأي. وللأسف ما نزال نتعامل مع هذا الجانب باستخفاف، ونهمل الدلالات التي توحي بها صورة كهذه يجدر أن تكون موضع نقاش، لأنها تنتمي إلى المجال العام، بحكم مناسبتها والجهة التي نشرتها واللوغو الذي تحمله، وليست مسربة من موبايل إحدى الخريجات أو مأخوذة لهن من احتفال خاص في «أرض الديار».

إذا تجاوزنا الانطباع الأول الذي تثيره الصورة بأن هذا اللباس مفروض، لأنه احتمال غير دقيق بحسب نظام الجامعة، قد نستنتج أن تحولاً دينياً واجتماعياً عاماً يجري في مناطق سيطرة فصائل الثورة

في الصورة تظهر الخريجات، أو معظمهن على وجه الدقة، منقبات بشكل يوحي باللباس الموحد. وتقول الأرقام إن الدفعة تكونت من 140 خريجاً باختصاصات مختلفة، بينهم 32 خريجة توزّعن على كلية التربية (13) وكلية الشريعة والقانون (12) وكلية الهندسة (7). جميع الخريجات محجبات. اثنتان بحجاب يكشف الوجه، في حين ترتدي ثلاثون النقاب. ومن السهل توقع أن النسبة كانت معكوسة قبل عشر سنوات. وإذا تجاوزنا الانطباع الأول الذي تثيره الصورة بأن هذا اللباس مفروض، لأنه احتمال غير دقيق بحسب نظام الجامعة، قد نستنتج أن تحولاً دينياً واجتماعياً عاماً يجري في مناطق سيطرة فصائل الثورة، من دون أن نتحدث الآن عن إدلب التي تهيمن عليها جهة إسلامية وتحوي أكبر الجامعات في الشمال.

بالعودة إلى الصورة نلحظ أن الخريجات يقفن في نصف دائرة، تتوسطها إحداهن حاملة علم الجامعة التي التُقط المشهد في أحد الهنغارات المعدنية التي تستخدمها بحكم الظروف الخاصة. ترتدي الفتيات أرواب التخرج التقليدية المعتمدة في الجامعات الغربية، وتضعن قبعاتها المربعة الشهيرة. وقد أسهم اجتماع هذه العناصر في إعطاء الصورة ملمحاً عسكرياً، بغير قصد.

والجدير ذكره هنا أن المدافعين عن الصورة أغفلوا، بتأثير حماستهم، تناقضاً في الهوية التي تحملها لم يكن ليفوتهم في مناسبات أخرى، هم الذين يدعون إلى الابتعاد عن الغرب وعدم اتّباع سلوكياته حتى لو دخل «جحر ضب». فتجاهلوا، بضمير مرتاح، اجتماع اللحى والنقاب في حفل تخرج «مستورد»، يرتدي طلابه الزي الذي يعود أصله إلى الرهبان الكاثوليك في العصور الوسطى، ويرمون قبعاتهم وفق عادة أكاديمية أميركية نشأت في مطلع القرن العشرين.

غير أن التناقض لا يقتصر على الناحية الشكلية. ففي دفاعهم عن مضمون الصورة استخدموا حجة أساسية هي «الحرية الشخصية»، قائلين إن المظهر الموحد للخريجات هو نتيجة اجتماع خياراتهن الفردية الحرة، متناسين أن الحجاب، والنقاب عند القائلين بفرضيته، لا يخضع للخيارات الشخصية في المنظومة الإسلامية، مثله مثل الصلاة والصيام. لكن الاختباء وراء مصطلح الحرية الشخصية بدا مناسباً للمحاججة، بغض النظر عن درجة تناقضه مع ما يؤمنون به، وعن مدى ازدواجية المعايير لديهم في الاستخدام الكيفي للمفاهيم.

على كل حال فإن الانسجام الذاتي للمدافعين ليس موضوعنا، بقدر الإيحاء بفكرة «المجتمع المتجانس» الذي أعطته هذه الصورة لأي مشاهد. وهي رسالة خطرة لباقي السوريين، قبل أن تكون للدول الغربية. ويشمل هذا مجتمعات ثورية في الداخل (درعا)، واللاجئين في الخارج، ومدن كبرى هاجعة (دمشق)، فضلاً عن الإثنيات والأعراق والطوائف الأخرى. لا نقصد النظام والإدارة الذاتية، بل سكان هذه المناطق الذين لا بد من أخذهم في الاعتبار عند التفكير في أي مستقبل للبلاد.

مهما كان غضبنا على «العالم» فنحن نحتاج إليه، وتهمنا «صورتنا» أمامه وطبيعة النموذج الذي نقدّمه لسوريا

ومن هنا لا تأتي أهمية الصورة من كونها تسجيلاً تذكارياً للحظة فرح يستحقها أصحابها بكل جدارة، بل من أنها علامة على تحول متصاعد في المحرَّر باتجاه التمركز حول طابع عربي سنّي من لون واحد ينفّر الآخرين، ليس انتشار النقاب إلا أحد تعبيراته فقط. تعطي هذه الصور، في لحظة غير مسؤولة، انطباعاً أن الشمال قد تقوقع على هوية واحدة ولون موحد في السنوات القليلة الماضية. ومن حق جمهور الثورة في كل مكان أن يتساءل عن دلالات ومعاني نشر هذه الصور رغم أن حقائق أخرى تشير إلى أن مجتمع الشمال ليس بالحالة التي يُروَّج لها. فقد سبق لنا جميعاً أن دفعنا ثمن سلوك رجل واحد هو أبو صقّار، عندما قرر، منفرداً، أن يشق صدر أحد جنود النظام ويلوك قلبه، انتقاماً لسلسلة من الانتهاكات. وقد استخدم الرئيس الروسي بوتين نفسه هذه الحادثة حين دافع عن دعمه للأسد، ورفعها كحجة في وجه نظرائه الغربيين عند الحديث عن تسليح المعارضة في قمة الثمانية الكبار عام 2013.

مهما كان غضبنا على «العالم» فنحن نحتاج إليه، وتهمنا «صورتنا» أمامه وطبيعة النموذج الذي نقدّمه لسوريا. وإذا خصّصنا الحديث بجامعات المحرَّر فيجب أن ندرك أن آخر ما تطلبه منا المديح، بعد أن تجاوزت تجربتها السنوات السبع، وصارت الدفعة التي نناقش صورتها من خريجي جامعة الشام، مثلاً، هي الرابعة. جهد القائمين على هذه المؤسسات وأساتذتها وطلابها هو قبض على الجمر بالفعل، والمصاعب التي يعانونها عديدة. غير أن أبرز ما يفكر فيه عشرات آلاف المنتسبين إليها هو كيف تتحول الشهادة التي سينالونها من «كرتونة»، غير قابلة للاستخدام إلا في هذا الجيب المعزول، إلى وثيقة معترف بها من المراجع التعليمية في العالم. فما الذي أضافته هذه الصورة للثورة السورية وللجامعات التي ترغب في الحصول على الاعتراف من الغرب الذي يتخوف من صور كهذه؟