صنع في روسيا

2019.10.06 | 03:08 دمشق

5d1f8eb6fc7e937c1d8b45b1.jpeg
+A
حجم الخط
-A

كان لا بدّ من قراءة متأنيّة لردود أفعال القوى الشعبيّة الثقافيّة والسياسيّة وقوى المجتمع المدني وغيرها حول تشكيل اللجنة الدستوريّة التي مضى على إقرارها من قبل المجتمع الدولي نحو أسبوعين، كما كان لا بدّ من مراجعة أسماء أعضاء اللجنة الـ 150، مرورا بما قاله رئيس هيئة التفاوض الدكتور "نصر الحريري" في المؤتمر الصحفي الذي عقده الائتلاف الوطني في الثلاثين من سبتمبر/أيلول الماضي، ومراجعة القرارات المتعلّقة بذات الشأن كافة، لتشكيل رأي موضوعي من خلال وضع المعلومات في سياقها الصحيح.

وبجرد معمّق لأسماء اللجنة الدستورية، لا نجد مجالاً للمقارنة بين قائمة نظام الأسد التي لا شك في أنّها وُضِعت بعناية من قبل مخابراته وأجهزته الأمنيّة بحيث تكون الأسماء كافّة من الموثوق بهم أو المسيطر عليهم، ولا شكّ كذلك في أنّ هذه الأسماء لم ترفع إلى الأمم المتّحدة إلا بعد موافقة روسيا على الأسماء الواردة فيها كاملة، لتكون قائمة المجتمع المدني الخاصّة بالأمم المتّحدة والقائمة الخاصّة بالمعارضة السوريّة هي مثار البحث والتدقيق.

من خلال نظرة متأنّية قليلاً لقائمة الأمم المتّحدة نجد أنّ 32 اسماً من أصل 50 هي لأشخاص ينتمون بالمطلق لنظام الأسد، وهذا يفسّر ما قامت به روسيا، حين تخطى صراعها السياسي طاولة المفاوضات وامتدّ إلى أرض المعركة، ليتحوّل إلى تفاوض بالنار من أجل ستّة أسماء انتهى بحصول الروس على أربعة منها مقابل اثنين للمعارضة، في حين نجد أنّ تسعة أسماء تنتمي بالفعل لتيّارات معارضة، لكنها لا تؤمن بالثورة وتعدّها حراكاً غوغائياً، ولها رؤية في مستقبل سوريا تختلف جذريّاً عن أهداف الثورة، أو على الأقل تختلف في جزء كبير منها، بينما نجد أنّ الأسماء التسعة الباقية هي لشخصيات أقرب للثورة لكنّهم متصارعون فيما بينهم حول عدد من القضايا منها ما هو جوهريّ؛ كشكل الحل السياسي، وشكل الدولة، وصلاحيات رئيس الجمهوريّة.

من خلال نظرة متأنّية قليلاً لقائمة الأمم المتّحدة نجد أنّ 32 اسماً من أصل 50 هي لأشخاص ينتمون بالمطلق لنظام الأسد، وهذا يفسّر ما قامت به روسيا

وأمّا قائمة المعارضة فنجدها الأكثر تعقيداً في القوائم الثلاث، فعلى الرغم من أنّها تحمل اسم قائمة المعارضة السوريّة، ويفترض أن تعمل على تحقيق أهداف الثورة وتطلّعات من ثاروا على نظام الأسد، إلا أنّنا نجد الانقسامات ما بين أعضائها وتباعد توجّهاتهم واضحة وجلية، فمنهم من لا يتّفق مع الثورة السوريّة ومع نظام الأسد على حدّ سواء، ومنهم من يرى أنّ المشكلة في سوريا لا تتعلّق ببشار الأسد وإنّما بإجراءات دستوريّة يجب القيام بها ومن ثمّ الذهاب إلى تغيير على أساس دستوري لا على أساس أنّ بشار الأسد مجرم حرب ومستبدّ تجب محاكمته، وعلى سبيل المثال لا الحصر نقرأ في القائمة أربعة أسماء تنتمي لحزب الإرادة الشعبيّة الذي يقوده قدري جميل والذي يُعدّ العمود الفقري لمنصّة موسكو، وهؤلاء يشكّلون نحو 20% من قائمة المعارضة أي 10 أسماء من أصل 50 اسماً.

من خلال تلك الحسابات نرى أنّ المعارضة المحسوبة على الثورة السوريّة حصلت على 49 مقعداً لكنّها تعاني من انقسامات فكريّة وعرقيّة وإثنيّة، وغير متوافقة فيما بينها على أغلب المواد الإشكاليّة في الدستور، فيما حصل الأسد على 83 مقعداً يملك القرار فيها بالمطلق ويمكنه الاستثمار في الـ 18 مقعداً الباقية التي يعتبر قسم كبير من شخوصها متوافقين مع روسيا (الداعم الأكبر لنظام الأسد).

إذاً، أمام المعارضة المحسوبة على الثورة السوريّة مهمّة صعبة أو شبه مستحيلة تتلخّص في نقطتين:

النقطة الأولى هي التوافق فيما بينهم وإنهاء حالة الانقسام الذي سيؤثّر على التصويت على مواد الدستور المطروحة، إذا قدّمنا حسن النيّة واعتبرنا أنّ الدستور ستكتبه أياد سوريّة.

وأمّا النقطة الثانية فهي عدم التنازل في الثوابت وهذا ما لا أراه حاصلاً، إذ إنّ رئيس هيئة المفاوضات الدكتور "نصر الحريري" تحدّث بصراحة في المؤتمر الصحفي بمقر الائتلاف الوطني في الثلاثين من الشهر الفائت أنّ اللجنة الدستوريّة سيكون أمامها مهمّة صعبة في 10% من مواد الدستور وهي المواد المتعلّقة بشكل الدولة وصلاحيات رئيس الجمهوريّة.

إنّ المتتبع للشأن السياسي يعلم تماماً أنّ المسائل الخلافية في الدستور هي شكل الحل السياسي وشكل الدولة وصلاحيات الرئيس، ولعلّ أخطر ما قاله "الحريري" هو مصطلح "تدوير الزوايا" الذي من الممكن أن تقدم عليه المعارضة

إنّ المتتبع للشأن السياسي يعلم تماماً أنّ المسائل الخلافية في الدستور هي شكل الحل السياسي وشكل الدولة وصلاحيات الرئيس، ولعلّ أخطر ما قاله "الحريري" هو مصطلح "تدوير الزوايا" الذي من الممكن أن تقدم عليه المعارضة لتقريب وجهات النظر بين الفرقاء، أي بمعنى آخر عدم خوض الصراع بصورة المواجهة، ومحاولة تحاشي الحدّيّة في التعاطي مع الأحداث، وبالتالي إصدار القرارات بصورة مواربة للواقع والحقيقة وعلى شكل من التحايل والالتفاف والابتعاد عن المقاربة المباشرة، وهذا ما سيدخل الثورة السورية وجمهور الثوار في تيه لا يُعرف من أين بدأ أو إلى أين ينتهي، ولا يعلم أين تكمن الحقيقة أو أين يكمن الخطأ والانحراف.

الأمر الآخر الذي لا يقل خطورة عما سبق هو قناعة المعارضة أنّ إرغام بشار الأسد على الدخول في اللجنة الدستورية انتصار للشعب السوري والثورة السوريّة، فلا يخفى على أحد أنّ من أرغم بشار الأسد على هذه الخطوة هم الروس وليست المعارضة أو المجتمع الدولي، وحريّ أن ننسب الانتصار للروس الذين لا يقلون إجراماً بحق الشعب السوري عن بشار الأسد.

فهدف موسكو الأساسي هو عدم تغيير شكل النظام في سوريا، أي الذهاب إلى التغيير مع الحفاظ على شكل المؤسسات الأمنيّة وأجهزة الاستخبارات مع تغيير طفيف وغير جذري في المؤسسات العسكريّة

هذا الانتصار الروسي لم يكن دون ثمن، فاللقاءات الأربعة التي جرى أوّلها بين رئيس هيئة المفاوضات نصر الحريري ووزير الخارجيّة الروسي سيرغي لافروف يوم الإثنين 22 كانون الثاني/ يناير عام 2018 وآخرها في صالة VIP بمطار الملك خالد في العاصمة السعوديّة الرياض، كانت كلّها تتناول شكل الحل السياسي وشكل الدولة وشكل النظام القادم، وهذا ما شكّل ارتياحاً لدى الروس، فالروس قطعاً ليسوا متمسّكين ببشار الأسد، وهذا ما قاله لافروف صراحة في لقاء على جريدة الشرق الأوسط الثلاثاء الفائت. فهدف موسكو الأساسي هو عدم تغيير شكل النظام في سوريا، أي الذهاب إلى التغيير مع الحفاظ على شكل المؤسسات الأمنيّة وأجهزة الاستخبارات مع تغيير طفيف وغير جذري في المؤسسات العسكريّة، وهذا يعني أننا مقبلون على تغيير يشبه ـ إلى حد التطابق ـ الانتقال في مصر من حكم "محمّد حسني مبارك" إلى حكم "عبد الفتّاح السيسي".

إنّ مطلب الشعب السوري الثائر لا ينحصر في خلع بشار الأسد ومحاكمته فحسب، بل في تغيير جذري لنظام الحكم بالكامل، ابتداء من فروع المخابرات التي تحكم سوريا ومنظومة الجيش المبنيّة على الولاء لعائلة واحدة، وصولًا إلى أصغر مؤسسة قمعيّة، فضلاً عن حكم ديمقراطيّ تُضمن من خلاله الحريّات الكاملة والمطلقة على كل الأصعدة، وعلى رأسها السياسة والإعلام والرأي والتعبير.

في المحصّلة إنّ ما كانت ستحصل عليه المعارضة بمؤتمر سميراميس في 27 حزيران 2011 ورفضته آنذاك، أكبر بكثير ممّا ستحصل عليه من خلال دستور للبلاد ستصيغه أيادٍ سوريّة، في لجنة كتب عليها "صنع في روسيا".