صفقة القرن.. ووقفة تأمل

2020.02.05 | 23:13 دمشق

580_1.jpg
+A
حجم الخط
-A

الحاضر ابن الماضي حقيقة ملموسة، ويحمل جيناته حتى وإن جاء الوليد على شكل طفرة، فإنه لا يأتي إلا نتيجة تراكم طويل قد لا يكون مرئياً قبل ولادته.. وعلى ذلك يمكن القول: إن الصفقة الإسرائيلية الأميركية المسماة بصفقة القرن ليست نتاج ترمب نتنياهو فحسب، بل هي نتاج زمن طويل من التقهقر العربي الذي لولاه ما تجرأ أحد عليهم.. فالأوطان لا تُسرق هكذا في طرفة عين، ولا حتى في حرب يكسبها غاز ما وتنتهي القضية.. لا أبداً، فالأمور لا تسير في الحياة على هذا النحو، إذ ما إن يحصل مثل هذا الأمر في بلد ما، ومن خلال اقتناص فرصة ما حتى تبدأ في إثرها حرب تحرير وطنية، قد يطول زمنها أو يقصر، لكن النصر غالباً ما يتحقق جالباً الحرية والاستقلال لأهل البلد المعني.. ذلك ما خبرته التجارب، ودوّنته سجلات التاريخ قديمه وحديثه..! أما أن يُسرق وطن في وضح النهار، ويبدأ بوعد لا يملكه صاحبه ليتحول إلى قبول دولي وموافقة تنتهي بقرار يصدر عن دولة عظمى لا تعمل وفق عظمتها بل كقاطع طريق يستهتر بمن حوله وبالعالم.. فذلك هو المسار الطويل للقضية الفلسطينية الذي آل إلى هذه النهاية المأساوية.. وما هو مرجو أن يكون ما يحصل خاتمة الأحزان، ويبشر بيقظة حقيقية تتجاوب مع النهوض الذي يجري في المنطقة..!

وإذا كانت المسألة الفلسطينية منذ نشأتها إلى الآن في حال من التراجع والتقهقر فلأن الأنظمة العربية بمجموعها على الحال نفسه، ولعلها أي تلك الأنظمة تتحمل، على نحو أو آخر، مسؤولية قيام دولة إسرائيل.. ولا بد لتأكيد ذلك من عودة سريعة إلى البدايات للقول: إنه على الرغم من رفض البلاد العربية لقرار التقسيم، وإعلانها الحرب على إسرائيل، فإنها قبلته ضمناً لكن دونما تنفيذ إذ تقدمت بعض جيوشها التي كان يمكنها أن تغير المعادلة لو لم تتوقف عند حدود الهدنة التي هي حدود قرار التقسيم.. ثم لتبقى على رفض التقسيم نظرياً، ولتعطي حق الوصاية على الضفة والقطاع لحكومتي الأردن ومصر مستبعدة صاحب الشأن (الشعب الفلسطيني) الذي ساهمت في تهجيره على أمل عودته السريعة التي طالت اثنتين وسبعين سنة حتى الآن لتأتي بمشروع يجهز على القضية بكاملها..

وليت المسألة وقفت عند هذا الحد بل أتت أنظمة أخرى على أنقاض تلك الموصومة بألف كذا وكذا لتأخذ على عاتقها تحرير فلسطين بالكامل وتوحيد أمة العرب في دولة واحدة فخاضت حربين هما حربا 1967 و1973، لكنها مع كل الأسف باءت بفشل ذريع ولعل الأولى منهما أتت صفعة كالصفعة التي يتلقاها العرب اليوم وقد خيِّمت على النخب السياسية والثقافية حال من الذهول والتشاؤم لاتزال آثارها باقية إلى الآن.. إذ لم تستطع فعل شيء ذي بال، كما أن أسباب ذلك الفشل باقية إذ جاء على وصفه الشاعر الدمشقي نزار قباني في قصيدة جامعة مانعة هي: "هوامش على دفتر النكسة" كانت أبلغ من أي بيان سياسي.. حين أتت على العسكرة والقمع الرهيب وطول لسان الحاكم (عبر إعلامه) قياساً لفعله ومحاصرة المواطن بلقمة عيشه واعتقال لسانه وتجهيله وبالإصرار على تخلف بلاده الشامل.

الحقيقة كانت فاجعة بحق إذ فاقت نكبة 1948 أما الثانية التي أُريدَ لها أن تكون حرب تحرير فقد أعقبتها ويلات لم تكن لتخطر على بال أي مواطن يعيش في هذه المنطقة وأعني بها زيارة الرئيس المصري أنور السادات إلى إسرائيل مفاجئاً العرب والعالم وفاتحاً باباً للمساومة على القضية كلها، وتبعه حافظ الأسد الذي قبل باتفاقية فصل القوات بين إسرائيل وسوريا وحلول قوات دولية محيداً بذلك جيشه "الباسل" رغم بقاء الجولان إلى اليوم تحت الاحتلال.. أما ثالثة الأثافي فكان أن أُخْرِجت منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت في شهر آب عام 1982 أي بعيد زيارة السادات بسنوات

نعم ما كان لإسرائيل أن تقوم لولا ضعف العرب وما يؤسف له أن العرب رغم كل ما يتمتعون به من ثروات طبيعية وبشرية إلا أن أوضاعهم اليوم أسوأ مما كانت عليه في ١٩٤٨

ثلاث لتعقبها على كراهية اتفاقيات أوسلو متجاوزة ما أعطاه قرار التقسيم رقم 181 تاريخ 29 نوفمبر عام 1947 الذي أعطى دولة للفلسطينيين تقدر مساحتها بـ 55% من مساحة فلسطين الكلية عدا عن القدس التي كان لها وضع خاص ويشكل العرب في دولتهم 99% بينما هم في الدولة اليهودية 45% وكانت منظمة التحرير قد غدت قوة حقيقية، إذ شكَّل العمل الفدائي عاملاً حيوياً وأملاً كبيراً إن لم يكن في استرجاع فلسطين فبتطبيق قرار التقسيم ذاته. لكن المنظمة أخافت الأنظمة العربية مع بعض القوى الوطنية التي أخذت تظهر بقوة في لبنان وغيره..

نعم ما كان لإسرائيل أن تقوم لولا ضعف العرب وما يؤسف له أن العرب رغم كل ما يتمتعون به من ثروات طبيعية وبشرية فإن أوضاعهم اليوم أسوأ مما كانت عليه في ١٩٤٨ فاليوم لا إرادة لديهم في المنافسة.. مع إسرائيل بالذات لا على صعيد العلوم ولا في مجالات الاقتصاد والمجتمع.. ولا بالنظم السياسية.. فأنظمتهم جميعها تحاكي النظم الإقطاعية (استبداد سياسي مدعوم عسكرياً ودينياً) وهي نظم ودّعها العالم المتحضر.. ولا نتحدث عن الأوضاع العسكرية فمعظم الدول العربية امتصت قوت شعوبها لتنفق على التسليح وبناء الجيوش التي لم تتصدَ إلا لمجتمعاتها وما نراه اليوم خير دليل.. ولم يزل جميعهم، وربما أغناهم ينفقون مليارات الدولارات وغالباً ما تكون تلك المليارات ترضية للدولة التي تبيع السلاح وترتب الصفقات بحق العرب عموماً.. اليوم لا أمل لهذه الشعوب إلا في هذه الثورات التي نشهدها اليوم تنهض أحياناً وتتعثر أحياناً أخرى.. لكنها ستنتصر.. لست متفائلاً جداً لكني أذكّر بالحروب الصليبية التي دامت مئتي عام.. وأؤكد أن مفتاح النجاح في هذا الصراع المرير هو العلم والتكنولوجيا الرفيعة أساس كل تفوق حضاري.

وبعد ثمة سؤال يطرح نفسه هل استنفذ العرب أسلحتهم كافة ولا أقول بالأسلحة العسكرية بل السياسية والاقتصادية واللوجستية الكثيرة سواء على مستوى علاقة بعضهم ببعض أم على مستوى الدول الإقليمية أم على المستوى الإقليمي فلديهم من الإمكانيات

إن الموافقة على صفقة القرن تقطع كل أمل في المستقبل لاستعادة أيِّ جزء من فلسطين ناهيك بأنها سوف تفتح مجالاً لاحتلالات أخرى

ما يعجز التحديات التي تواجههم كالقوى البشرية المتزايدة ولديهم المواد الخام والأيدي العاملة الرخيصة الخبيرة المبدعة خارج أوطانها، والممرات الأرضية والمائية والجوية ولديهم بطبيعة الحال أسواق يسيل لها لعاب تجار العالم، نعم إن التصدي لإسرائيل اليوم يحتاج إلى أسلوب جدِّي يقارب الأسلوب الذي تفوقت به إسرائيل نفسها.. واستطاعت من خلاله إقناع العالم كلِّه به، أي بالتفوق العلمي والتكنولوجي الراقيين وبنظامها السياسي رغم كل العنصرية التي تمارسها ضد الفلسطينيين والعرب عموماً..

إن الموافقة على صفقة القرن تقطع كل أمل في المستقبل لاستعادة أيِّ جزء من فلسطين ناهيك بأنها سوف تفتح مجالاً لاحتلالات أخرى، ولنفوذ إسرائيلي شامل يجعل من دول المنطقة وشعوبها تابعة لإسرائيل الصهيونية أما رفض الاتفاقية والانضمام إلى هذا الحراك العربي المبشِّر بالحرية والبناء والمستمر منذ عشر سنوات فهو وحده الأمل الكبير المتبقي فليست دوافعه الحرية ولقمة العيش والتخلص من الحكومات العسكرية والأمنية واستبدادهما بل إن أهم دافع له هو تجاوز ذلك الذل الذي  راكمته في النفوس هزائم الأنظمة وتقهقرها واستكانة قادتها من أنانية مفرطة، وتعلق شديد بكراسي الحكم.