صعود الجهاديين المهاجرين إلى سوريا وأفولهم

2023.01.16 | 06:38 دمشق

سوق في إدلب ـ رويترز
+A
حجم الخط
-A

في تشرين الثاني الماضي ختم الشيخ عبد الله المحيسني، أحد أبرز الجهاديين المهاجرين إلى سوريا، مسابقة على حسابيه في تلغرام وتويتر بعنوان «رموز الثورة»، هدفت إلى تذكر «قادتنا الأبطال الذين قدّموا أرواحهم في سبيل الله». وبدأت بالمقدم حسين هرموش، مؤسس لواء الضباط الأحرار، وانتهت بمهاجر سعودي هو البراء الخليفة التميمي، المعروف بكنية أبي المثنى المدني، والمشتهر باللقب الذي اختاره لنفسه على وسائل التواصل الاجتماعي «توّاق».

لا يبدو أن المحيسني هو الوحيد المعني بإحياء ذكرى توّاق. فبعد أشهر من مقتل هذا الشاب أثناء مواجهة مع النظام، وبناء على وصيته؛ جمع بعضهم نصوصه المتفرقة في كتاب صدر، في منتصف 2016، بعنوان «حكايا توّاق: أوراق مهاجر من أرض الشام» جرى توزيعه مجاناً بالإضافة إلى إتاحته للتحميل على النت. وفي العام الفائت أعيد نشر خمسة آلاف نسخة منه ووزّعت في المناطق المحررة في شمال سوريا، كما جرى جمع تغريدات وقطع أخرى له وطُبعت تحت عنوان مشابه هو «عبق توّاق». قدّم المحيسني للكتابين، ربما لأنه الأشهر بين المهاجرين الجزراويين.

وبغض النظر عما قد يكون أحاط الأمر من صدف؛ فإن استعادة الكتاب الأول لتوّاق، وطباعة الثاني، تبدو محاولة لتثبيت المهاجر الجهادي في صورة أولى له، نقية وبكرٍ ومفعمة بالفداء، بعدما أصابها من وعثاء مسيرة الثورة السورية المديدة، والطفرة الوحشية لداعش، والتصنيف العالمي بالإرهاب ومستتبعاته، والأطفال مجهولي النسب.

ولد البراء لأسرة متدينة عادية في المدينة المنورة. أتم حفظ القرآن في السابعة عشرة والتحق بكلية الشريعة في الجامعة الإسلامية. عاش «حياة طيبة رغيدة»، كما يتردد عادة في سير المهاجرين قبل «النفير». تأثر بالأخبار التي كان يشاهدها عن الثورة السورية، وبالدعوات إلى نصرة إخوانه هناك فقرر الالتحاق بالفصائل الإسلامية المقاتلة. وحين فاتح أبويه بنيّته لم يحِرا جواباً رغم غصتهما الكبرى، فقد كانا يؤمنان بدوافع ابنهما ولم يستطيعا الوقوف في وجهه. وصل أبو المثنى المدني باكراً إلى سوريا، في آذار 2013، والتحق بجبهة النصرة. استقر في بلدة حريتان شمال حلب، حيث أسس حلقات لتحفيظ القرآن للصغار والكبار، وأسهم في إنشاء معاهد شرعية نسائية، وافتتح فرعاً محلياً لمشروع «ابنة الإسلام» لتوفير الحجاب بسعر زهيد. وبالطبع شارك في القتال الذي أدى إلى مصرعه في قرية باشكوي في النهاية.

ينتمي «حكايا توّاق»، أكثر من شقيقه الأصغر «عبق..»، إلى نمط من التأليف كان قد افتتحه مؤسس الجهادية العربية العابرة للحدود عبد الله عزام، الذي تركزت المهمة التي أناطها بنفسه في نقل صورة طهرانية وغرائبية إيجابية عن قتال الأفغان ضد السوفييت، تحريضاً على الدعم المادي لهم وحشداً للمتطوعين. وهو ما أنتج ظاهرة المجاهدين العرب في ذلك البلد، والتي كانت مثالاً مغرياً لاحتذائه في تجارب لاحقة عديدة منها الحالة السورية.

يبدأ توّاق حكاياته بمشاهد من معسكر التدريب، حيث تلعب الجنسيات المختلفة للمقاتلين الجدد دوراً تحفيزياً، إذ يبدون كغرباء تجمعوا من أصقاع الأرض على أخوّة إيمانية تدفعهم إلى التسابق نحو الموت

غير أن مجرد هبوط هذه المهمة من قلم رجل مخضرم، كعزام، إلى لوحة مفاتيح شاب في أوائل عشريناته، مثل تواق، دليلٌ على أن التاريخ لا يعيد نفسه بصورة جادة. وذلك على الرغم من محاولة المحيسني، الذي ليس بعيداً عن تذكر وضعية عزام، النفخ في تجربة توّاق الكتابية، إذ يصفه بأنه «أديب المجاهدين، وكاتبهم المبدع، ذو القلم السيال». والحق أن من معالم فوات توّاق اعتمادُه «القلم السيال» فيما كان مجايلون له، بتكوينات أقل تقليدية، يتقاطرون على سوريا ليعملوا في إصدارات مرئية أنتجتها «الدولة الإسلامية» (داعش) معتمدة الإبهار البصري الذي مزج بين السينما وألعاب الكمبيوتر.

يبدأ توّاق حكاياته بمشاهد من معسكر التدريب، حيث تلعب الجنسيات المختلفة للمقاتلين الجدد دوراً تحفيزياً، إذ يبدون كغرباء تجمعوا من أصقاع الأرض على أخوّة إيمانية تدفعهم إلى التسابق نحو الموت. أوس طالب السنة الرابعة بكلية الطب في ألبانيا، وعبد الرحيم ابن الحادية والعشرين، الأذري الذي أسلم وبقي أهله «على ملة الكفر»، بعكس حالة شامل، الداغستاني في الخامسة عشرة، فقد قدم مع عائلته المهاجرة والمجاهدة بأكملها. وآخرين يستذكرهم توّاق، بعد عام، فيقول إنهم «أضحوا بين شهيد ومصاب وأسير وعائد»، خلا القليل.

ولتفسير ذلك يصحبنا الكتاب في بعض المعارك التي يبدو فيها طغيان الرغبة في الاستشهاد على السعي إلى البقاء أو الانتصار، والاندفاع الحماسي المرتجل لمدنيين تلقوا تدريباً مختصراً. فعلى سبيل المثال توغلت مجموعة من المهاجرين في أرض عدوة وسألت مقاتلاً عابراً قبل أن تكتشف جملة «لبيك يا زينب» على كتفه، وتخوض مغامرة خطرة أدت إلى مقتل اثنين منها ونجاة الباقين قدَراً.

أما صورة السوريين في عين المهاجر فيمكن أن نمثّلها عبر نموذج يحيى الذي تأتي حكايته بعنوان «من الظلمات إلى النور». فقد كان شاباً على فطرته، «نقياً طيباً وغايته شريفة»، لكن الغاية لا بد لها من حرص واجتهاد. فقد خرج يحيى ثائراً مع الثوار، وهمه طرد العدو الغاصب، لكنه أخطأ فلم يختر «المجاهدين الصادقين» بل قاتل مع أقرب فصيل. ولما طالت الثورة تحول الفصيل من الجبهات إلى الحواجز والسرقات، ونخر الفساد قادته حتى عُرفوا بجرائمهم، وضلّ يحيى معهم وابتدأ «رحلة الضياع بالتدخين وترك الصلوات» وأخذ ضميره يؤنبه. حتى إذا استعرت «فتنة الاقتتال الداخلي»، كما يسمّي توّاق صدام الفصائل وداعش، اعتزلها يحيى وذهب إلى تركيا حيث راجع أوراقه ورتب أفكاره. حتى رجع فانضم إلى «قوافل العائدين» إلى الله، وهجر رفقة السوء، والتحق بمعهد شرعي رغم ضعف قراءته وكتابته، واستنار قلبه بالعقيدة الصحيحة. فعلم «لماذا سيحمل السلاح؟ ولماذا سيجاهد؟ وما غايته؟ وندم على وقت مضى حمل فيه السلاح بجهل». وعرف أن أعظم دواء لقلبه، كي لا يغريه الشيطان بتكرار ماضيه، هو خطوط النار. فما زال يرابط فيها حتى أصابته قذيفة هاون وخرجت روحه بسكينة وهدوء و«على شفته ابتسامة صغيرة».

يريد ناشر الكتابين اليوم تأطير صورة المهاجر إلى سوريا في طبعة زاهية لكنها قديمة. فبعد الحفاوة الكبيرة التي أبداها مجتمع الثورة بنماذج بدت قادمة من عالم ملائكي، لتثأر للعفيفات وترد المظالم، أخذت الصورة تتحول بالتدريج، خاصة مع توجه المهاجرين إلى الحكم، مع ما يستدعيه ذلك من سلطة ومناصب وفساد وتمييز وعقوبات وسجون. وإذا كانت داعش هي أكثر من مارس تجربة الحكم، وأكثر من استقطب مهاجرين في تاريخ الجهاديين؛ فإن الحصيلة كانت كارثية على هؤلاء وعلى سواهم. فهم الآن موقوفون ذوو مستقبل مجهول في سجون الإدارة الذاتية، ترفض دولهم الغربية استقبالهم إلا بالقطارة وضمن شروط، أما البلاد العربية فقد أعدّت لرعاياها معتقلات شديدة القسوة. في حين أن من تبقى حراً من المهاجرين في سوريا بات يبحر في التيه؛ بين الانتماء إلى «هيئة تحرير الشام»، أو العمل ضمن ضوابطها، أو التواري عن جهازها الأمني، أو البحث عن طريق إلى أوكرانيا.