شموع بيروت ودموع الخرطوم

2020.10.20 | 00:02 دمشق

55705128e1427.jpg
+A
حجم الخط
-A

تمرّ بلادنا العربيّة بأسوأ أيامها منذ عصر الانحطاط الكبير، عندما كان المغول والتتار والصليبيون يتقاسمون أجزاءها ويتناهبون ثرواتها ويعيثون بها فساداً وتخريباً. مع ذلك تكون الكوارث أحياناً مدعاة للأمل في رَوْحٍ جديد، فرغم قساوتها وآلامها وما تخلّفه من دمار وخراب ومآسٍ، فهي تستنهض الهمم أحياناً وتعيد للناس أولوياتهم، فتضع على قائمة أعمالهم ضرورات ملحّة كان التأجيل يطويها باستمرار. ما حصل في لبنان بعد انفجار مرفأ بيروت، وما حصل في الخرطوم بعد فيضانات النيل، مثالان بسيطان على فعل الطبيعة وفعل الإنسان عندما يتجاوز حدود الاعتياد أو المنطق.

في لبنان، سكت الناس عن أمراء الحرب ليعودوا ملوكاً بعد الطائف، ليحكموا مناطقهم ويتقاسموا الدولة وما عليها من بشر وحجر. بعد ذلك سكتوا عن تمدد حزب الله وقضائه على حركة المقاومة الوطنية اللبنانية واحتكار سلاح المقاومة، فوصلوا إلى حال ينافس بها الدولة، بل ويستولي عليها كلياً. تجنّباً للإمعان في جلد الذات، لم يكن للّبنانيين المهمشين والمسحوقين بين رحى الحرب الأهلية والاحتلال العسكري والسوري والإسرائيلي كثير خيارات، فقد كانت اللعبة أكبر منهم بكثير.

في السودان أيضاً، ورغم وجود أحزاب وحركات طلابيّة ومنظمات مدنية وأهلية فاعلة وذات تاريخ عريق، إلا أنّ حكم العسكر المدعوم بغطاءٍ ديني من الجبهة الإسلامية القومية، قبل أن ينقلب عليها البشير ويزّج رئيسها الترابي

في مقارنة بين حدثين كبيرين من نوع مأساوي، أصابا لبنان والسودان، نجد وحدة باللامبالاة الحكومية من جهة، كما نجد فرقاً هائلاً بالتعاطف والانشغال والمتابعة على مستوى دول العالم ودول الجوار

في السجن، كان قد عزّز الاستبداد لدرجة أفقدت السودانيين القدرة على التحكم بمصائرهم. ورغم النضال الذي أخذ شكل سباق المسافات الطويلة، فإنه لم يتحقق التغيير، أو بدايته على الأقل، إلا مع الهبّة الشعبية الأخيرة التي أطاحت بالبشير، لكنها لم تستطع ان تُقصي العسكر عن الحكم نهائياً بعد.

في مقارنة بين حدثين كبيرين من نوع مأساوي، أصابا لبنان والسودان، نجد وحدة باللامبالاة الحكومية من جهة، كما نجد فرقاً هائلاً بالتعاطف والانشغال والمتابعة على مستوى دول العالم ودول الجوار من جهة ثانية. فيمكن ببساطة ملاحظة الأداء المترهّل والغبيّ لكلتا الفئتين الحاكمتين في هذين البلدين، ففي لبنان، لم يهتزّ لأيّ من أفراد الحكم أو المعارضة جفن، لأنهم ببساطة ينتمون إلى نفس الطبقة السياسية، التي هي بالأصل المنتج الطبيعي للحرب الأهلية اللبنانية، حيث تسلّم حكمَ البلاد أمراءُ الحرب والمجرمون ومرتكبو الانتهاكات ذاتهم. وكذلك في السودان لم يقطع رئيس المجلس السيادي الفريق أول عبد الفتاح البرهان زيارته إلى أرتيريا، ولم يسارع رئيس الوزراء عبد الله حمدوك إلى إعلان حالة الطوارئ في البلاد، ولا إلى مطالبة الأمم المتحدة بالتدخّل، رغم أنّه عمل في هيئاتها ومؤسساتها فترة طويلة جداً كأمينٍ عامٍ للجنة الاقتصادية لأفريقيا، وخبيرٍ في مجال الحوكمة وإصلاح القطاع العام وإدارة الموارد!!

وعلى الضفّة الأخرى نجد إهمالاً غير مبرّر لكارثة الخرطوم، مقابل تعاطف كبير – وإن كان معظمه كاذباً – بكارثة بيروت. لا يمكن بكل الأحوال حصر هذا الفرق في التعامل بين الكارثتين بسبب واحد فقط، فهناك كثير مما يمكن الحديث عنه هنا. لعلّ أهمّ هذه الأسباب كان بلا شكّ تفاعل أبناء البلدين العربيين ذاتهما مع الكارثتين. فبينما توفّر لانفجار بيروت المرعب – ربّما بالصدفة المحضة – كثير من عوامل التغطية الإعلامية، وربّما بسبب طبيعة الحدث وما فيه من حركة ومفاجأة غير اعتيادية، لم يتوفّر لفيضانات السودان مثل ذلك. ربّما أمكننا أيضاً إرجاع بعض الأسباب لاعتياد الناس على أخبار الفيضانات في السودان وغيرها من بلدان القارة السمراء، وربّما لوضع الإنترنت في السودان، الذي يوصف بالمزري رغم ارتفاع كلفته مقارنة بالخدمة المقدّمة، أو لقلّة عدد مستخدمي وسائل التواصل هناك. وهذا كلّه يندرج ضمن الأسباب الداخلية الخاصة بكل بلد على حدة.

ولو ألقينا نظرة على الأسباب الخارجية، لوجدنا أيضاً ما يمكن قوله في هذا المضمار، فالسودان ليس طرفاً فاعلاً ومؤثراً في الصراع العربي الإسرائيلي من جهة، كما أنه من جهة ثانية لم يكن يوماً مؤثراً على صراع المشاريع في منطقة الشرق الأوسط ما بين الكبار الدوليين والفاعلين الإقليميين، وهو لا يتمتع بتلك الثروات التي يسيل لها اللعاب. أما في لبنان فالوضع مختلف تماماً، على الأقل بات لبنان منذ عدة أعوام سلاحاً كامل الجاهزية بيد ملالي طهران عبر وكيلهم المحلي حزب الله، وهذا بحد ذاته سبب كاف لمسارعة الرئيس الفرنسي ماكرون بطرح مبادرة سياسية ظنّها قادرة على تغيير قواعد اللعبة هناك. وفي النهاية فشلت مبادرته، لأنه لا يمكن للعطار أن يصلح ما أفسده الدهر.

سيبقى الحال على ما هو عليه من دموع تُذرف على بيروت والخرطوم، ما لم تأخذ شعوب البلدين العربيين بناصية أمرهما، وما لم تلحقهما في فعل الثورة والتغيير باقي شعوب المنطقة، فلم يعد التاريخ يحتمل هذا النكوص إلى الخلف، ولا الرجوع بالمأساة إلى بداياتها كلّ حين وحين. ولعلّ نافذة الأمل لم تغلق بعدُ، فشباب وصبايا السودان بدؤوا فعلاً ثورتهم، لكن عليهم ألا يغفلوا عنها كي لا يسرقها العسكر مجدداً. أما شباب لبنان فإنهم يحاولون جهدهم وقدر استطاعتهم، وعلى أمل انتصارهم يوماً نوقد لهم الشموع كل يوم.

كلمات مفتاحية