سيكولوجيا أسرى الاستبداد

2020.06.20 | 00:00 دمشق

alastbdad-2.jpg
+A
حجم الخط
-A

يصور الكواكبي الحياة الجسمية والروحية والعقلية والاجتماعية لمن يقع عليهم الاستبداد، الذين يوصفون بأنهم (أسرى ومستصغرون وبؤساء...). إن أسير الاستبداد لا نظام في حياته كلها، فأنّى يكون له نظام في أخلاقه؟! إنه يشبّ في ظل الحكم الاستبدادي الذي لا يغذيه إلا بشرّ الخصال، فيتعود الرياء والكذب، ويستعملها مع ربّه وأسرته وقومه، وحتى مع نفسه.

وتتشرب نفوس الأسرى المساوئ، وتترسخ فيها تعاليم الاستبداد القائمة على الخداع والنفاق والاتكالية ((وهكذا طول الألفة على هذه الخصال قلب في تفكيرهم الحقائق وجعل عندهم المخازي مفاخر، فصاروا يسمّون التصاغر أدباً، والتذلل لطفاً))، فتركوا حقوقهم ورضخوا للظلم وقبلوا الإهانة حتى فسدت أخلاقهم حيث لا إرادة لهم ولا خيار، وتعودوا على الخصال السيئة التي تضعف الثقة بالنفس وبالآخرين، فقلَّ أهل العمل منهم، وأهل العزائم. لماذا يعملون وحياتهم بغير انتظام وليس لديهم الحد الأدنى من الضمان النفسي الضروري الذي يحثّ على العمل، ولا ضمان في أن يحتفظ الإنسان بما جنته يداه؟

إن الإنسان الذي يصفه الكواكبي، في ظل الاستبداد، إنسان مسلوب الإرادة يتصرف أسياده بمقدراته جميعها. إنه فاقد المواطنية لأنه لا يحب وطنه الذي لا يأمن على الاستقرار فيه. ولا أمل له ولا غاية، يعيش في فراغ مميت. مسلوب الوعي بالمستقبل فلا يهتم إلا بحفظ بقائه في لحظته الآنية، لأنه لا يملك ما هو جدير بالحفاظ عليه. وأسير الاستبداد معرّض لسلب المال والشرف في أي وقت، لذلك تقل همّته على العمل، وأمله الوحيد هو أن يحتفظ بالقليل مما يحصله من المال محاولاً إخفاءه عن أعين الناس والتظاهر بالفقر والفاقة خوفاً من فقدانه. ((ولهذا ورد في أمثال الأسراء، أن العاقل من يخفي ذهبه وذهابه ومذهبه، وأسعد الناس الصعلوك الذي لا يعرف الحكام ولا يعرفونه))، فليس أمام الناس، في ظل حكم استبدادي، إلا التكتم والتقيّة والحيلة لإخفاء أموالهم خشية فقدانها في زمن يسمح الحكّام فيه بالنهب والسلب. كما يضطر الناس إلى إخفاء مقاصدهم وتحركاتهم وآمالهم، فضلاً عن اضطرارهم إلى إخفاء أفكارهم ومعتقداتهم، لأن كشف ما لا يرضى عنه المستبد يعرّض حامله إلى السجن والتعذيب، وربما القتل.

هؤلاء الناس، بحسب رأي الكواكبي، ليس لهم إلا التقوقع داخل ذواتهم حتى يتجنبوا -قدر إمكانهم- يدَ المستبد التي تمتد بالإهانة والسلب والتسلط على كل ما تطاله. لأن المستبدّ لا يفرِّق بين صديق أو مُعين، وعدو معارض مشاكس. إن المستبد حينما يلمح عند أحد ما شيئاً ينقصه هو، أو شيئاً يجعل الآخر متميزاً عليه، فإنه يُسارع إلى سلبه إياه، والاستئثار به لنفسه. فلا الناس يريدون مناصرة المستبد مباشرة، ولا هم يحاولون محاربته. وإنما حرصهم كلّه ينصبّ على ملذاتهم البهيمية. والكواكبي يلاحظ أنه لا فرق بين غنيّ وفقير في الشقاء زمن الاستبداد، ويشرح ذلك قائلاً: إن ((أسراء الاستبداد حتى الأغنياء منهم كلهم مساكين لا حراك فيهم، يعيشون منحطين في الإدراك، منحطين في الإحساس، منحطين في الأخلاق)) لأنهم جميعاً هدف تسلّط المستبد الذي يريد أن يستخدمهم كالأنعام لأغراضه الشخصية، وكأنهم جميعاً خُلقوا لخدمته. بل إن الكواكبي يذهب إلى أبعد من ذلك فيرى أن حالة أغنياء الأسرى أشقى من حياة الفقراء، فهم، وإن استطاعوا تأمين حاجاتهم الأولية، إلا أن ما يشقيهم هو ما يحاولونه من تظاهر بالراحة والرفاه والتمجّد الكاذب. إنه ((حمل ثقيل على عواتقهم كالسكران يتصاحى فيبتلى بالصداع، أو كالعاهرة البائسة تتضاحك لترضي الزاني)). فهم، فضلاً عن حياة الذل التي يشاركون فيها الفقراء، فإنهم مبتلون بحب التظاهر بعدم معاناتهم من سطوة المستبد، وفي هذا عذاب للروح شديد.

إن الأمة المستبَدّة، بأغنيائها وفقرائها، تعيش في وطن لا تملك منه شيئاً، وإن الذي يستأثر بخيرات البلاد، كلها، هو المستبدّ الذي يوزع على أعوانه ما يشاء. أما المواطنون فلا حقوق لهم في موطنهم، وما هم إلا أشياء، شأنهم في ذلك شأن الأشياء الأخرى، كالشجر والحيوانات والأموال، وما هم إلا وسيلة يتوسلها المستبد ليرضي أهواءه الخاصة، ويشكلها وفق مزاجه الشخصي. إن حياة هؤلاء البؤساء كلها خلل في خلل، وذلك يجعلهم هيّني النفوس، يعتقدون أنهم لا يستحقّون حتى الفتات الذي ينعم عليهم به المستبد، ويرون أنفسهم جاهلين عاجزين لا يمكنهم العيش إلا بمساعدة آسرهم. ويعيش الأسير في بلبلة فكرية، مختل الشعور، غير قادر على التمييز بين الخير والشر، مريض الجسم يشيخ قبل أوانه لا ناموس له ولا إرادة، كالحيوان ((ومن أين لأسير الاستبداد أن يكون صاحب ناموس وهو كالحيوان مملوك العنان، يقاد حيث يراد، ويعيش كالريش يهب حيث يهب الريح، لا نظام ولا إرادة)). يساعده المستبد في تغليب نفسه على عقله، حتى يزيغ بعيداً عن كل ما يمت إلى التربية والعلم والنظام بصلة، ويغرق في الوهم وفساد التصورات. ((بناء عليه ما أبعد الناس المغصوبة إرادتهم، المغلولة أيديهم، عن توجيه الفكر إلى مقصد مفيد كالتربية)). إن عبيد السلطة الاستبدادية غير مالكين أنفسهم، ويعملون، إن عملوا، من دون إيمان أو هدف، لذلك فهم أبعد الناس عن أن يوجد فيهم من يُعنى بالتربية.

إن طفل الأسر ينشأ على تلقي المشاكسة والمخاصمة، يعاني وهو طفل من ضغط القماط، وضيق الفراش، والغذاء الفاسد ((وإذا افتكرنا كيف ينشأ الأسير في البيت الفقير وكيف يتربى، نجد أنه يلقح به وفي الغالب أبواه متناكدان متشاكسان، ثم إذا تحرك جنيناً حرك شراسة أمه فشتمته)) لا يمكنه أن يلعب لضيق مساحة البيت وعصبية والديه مما يعانيانه من ضغط الأسر، ولا يستطيع أن يستفسر عما يريد فهمه خشية أن يُضرب أو يُزجر لضيق خُلق أبويه وجهلهما. ثم يألف القذارة وصيغ الشتائم التي يتعلمها من زملائه في المدرسة، بعدئذ يتولى المستبدون إكمال إفساده بالتضييق على عقله ولسانه ((وهكذا يعيش الأسير من حين يكون نسمة في ضيق وضغط، يهرول ما بين عتمة هم ووادي غم، يودع سقماً إلى أن يفوز بنعمة الموت مضيعاً دنياه مع آخرته، فيموت غير آسف ولا مأسوف عليه)) هذه هي التربية الوحيدة التي يمكن أن يتلقاها الواقع تحت سطوة الاستبداد منذ أن يكون نطفة إلى أن يُوارى تحت التراب. لأنه يبقى محاصراً طيلة فترة وجود الاستبداد.

إن الأسير لا يوجد مستقلاً بذاته، وإنما هو نكرة لا يوجد إلا بالإضافة إلى آسره، يتبعه فيما يأمره به وينتهي عما ينهاه عنه. لا وظيفة له إلا أن يكون عصاً في يد المستبدّ، يستخدمها أينما شاء وكيفما أراد، فيعيش الأسير فاقد الوظائف الاجتماعية والشخصية، وتصبح حياته لا معنى لها، إن ((حياة الأسير تشبه حياة النائم المزعوج بالأحلام، فهي حياة لا روح فيها)) إذ لا يمكنه أن يريد شيئاً، فضلاً عن استحالة تحقيق ما يريده. ولا يستطيع أن يرى إلا بعيني آسره، يعزو كل فضل إلى كرم الحاكم، ويسند كل شر إلى استحقاقه إياه، ويعتقد أن الله يعاقبه على أعماله إذ يسلّط عليه سياط المستبدّين)).

إن الأسرى يتأقلمون ووضع الاستبداد ومتطلباته، فهو ((جعل الرعية خادمة للرعاة فقبلوا وقنعوا))، ولم يقوموا إلا برد فعل سلبي تجاه الظلم الواقع عليهم، فيقابل واحدهم التجبر عليه بالتذلل والتصاغر، وإذا تصادف أن طالب الأسير بحق من حقوقه فإنه يفعل ذلك على صيغة استعطاف، وكأنه يطلب إحساناً لا حقاً. والأسير يتهاون في حقوقه، حتى إذا ضُرب أو شُتم فإنه يتصرف سلبياً، فهو إما أن يتجاهل ذلّه، أو يلجأ إلى مداواته بتعطيل إحساساته بالمخدرات والمسكرات، أو بالتظاهر بأن الدين يأمر بالتسامح، فيسلك مسلك الرياء والنفاق، ويردد مع المرددين بأن الدنيا سجن المؤمن، وأن المؤمن مصاب، وأن الله إذا أحب عبداً ابتلاه، إلى غير ذلك مما أدخله في أذهانهم مثبّطو العزائم، ورافعو لواء الاستبداد.

وملذات الأسراء مقصورة على لذتين اثنتين، نظراً لضيق ذات اليد ومدى الفكر معاً. فهم لا يسعون إلا إلى ((لذة الأكل وهي جعلهم بطونهم مقابر للحيوانات إن تيسرت، وإلا فمزابل للنباتات، أو بجعلهم أجسامهم في الوجود كما قيل أنابيب بين المطبخ و((الكنيف))، أو جعلها معامل لتجهيز الأخبثين. واللذة الثانية هي الرعشة باستفراغ الشهوة)). فهم لا يحرصون إلا على الحياة الحيوانية، لذلك فإن من طبع الأسير الخمول والكسل، فما من هدف يُطلب، وما من أمل يُرجى تحقيقه ((فيعيش خاملاً خامداً ضائع القصد، حائراً لا يدري كيف يميت ساعاته وأوقاته))، يغري نفسه بالسعادة الأخروية ((ويبعد عن فكره أن الدنيا عنوان الآخرة، وأنه ربما كان خاسر الصفقتين)). فلا هو يحيا دنياه، ولا هو ينفّذ ما يطلبه منه دينه ليسعد في آخرته. إنه إنسان تائه، يؤمر بمعاداة أهله وجيرانه، فينفّذ ما أمر به خشية غضب المستبد عليه، لذلك يعيش فرداً معزولاً عمن حوله، متوجساً منهم، مترصداً لاستغلال هفواتهم في صالحه.

كلمات مفتاحية