سياسات بوتين تكون واقعاً جديداً

2022.02.11 | 05:46 دمشق

2022-02-09t101149z_872178518_rc29gs99xxd1_rtrmadp_3_ukraine-crisis-germany-usa-troops.jpg
+A
حجم الخط
-A

كشف بوتين في ديسمبر الماضي أنه اضطر للعمل ليلاً كسائق أجرة نتيجة للظروف الاقتصادية الصعبة التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفيتي، يتذكر معظم الروس بمرارة كبيرة حقبة التسعينيات التي شهدت معاناة اقتصادية قاسية بالإضافة إلى حالة الإذلال القومي نتيجة تحول روسيا إلى قوة غير مهابة في العالم، كان بوتين في وقت سابق وصف انهيار الاتحاد السوفيتي بأنه "أكبر كارثة جيوسياسية في التاريخ المعاصر"، وأضاف "مَن لم يشعر بالأسى تجاه انهيار الاتحاد السوفيتي إنسان بلا قلب، ومن يريد استعادة مثل ذلك الاتحاد السوفيتي، إنسان بلا عقل"!

توحي التوترات على الحدود الأوكرانية بأن بوتين يشعر بأن الوقت أصبح مؤاتياً لتصحيح تلك الأوضاع الذي تسببت بها ما سمي بمؤامرة "بيلافجسكويه بوشا" التي احتضنتها غابات بيلاروس في عام 1991 وجمعت ثلاثة رؤساء لجمهوريات سوفيتية في روسيا وأوكرانيا وبيلاروسيا آنذاك الذين اتفقوا على التخلص من الاتحاد السوفيتي ورئيسه ميخائيل غورباتشوف الذي يلومه بوتين على توسع حلف شمال الأطلسي شرقاً، فوفقاً للرواية الروسية اكتفى غورباتشوف بوعد شفهي غير مكتوب من الأميركيين بعدم توسع حلف شمال الأطلسي في دول حلف وراسو.

أحيا بوتين في الكرملين تقليداً روسياً قديماً ينظر إلى المجال الجيوبوليتكي الحيوي لروسيا على أنها منطقة نفوذ حصري لها، وتتحرك عسكرياً للدفاع عنه في حال حدوث اختراق، حدث ذلك في جورجيا 2006 وفي أوكرانيا 2014, سعى بوتين إلى ربط الدول في المجال الحيوي الروسي بهياكل واتفاقيات أهمها الاتحاد الأوراسي الذي يضم إلى جانبها بيلاروسيا، كازاخستان، قيرغيزستان وأرمينيا.

خلال العامين الأخيرين، قامت موسكو بتحركات حاسمة كان من شأنها تعميق نفوذها في مجالها الحيوي، تدخلت موسكو في بيلاروسيا مستفيدة من الاضطرابات التي نجمت عن تزوير الانتخابات الرئاسية التي جرت نهاية عام 2020، مما اضطر الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو للتوقيع على مرسوم "دولة الاتحاد" والاعتراف بحقوق روسيا في شبه جزيرة القرم، وإطلاق إصلاحات دستورية تحد بشكل كبير من سلطته الشخصية لصالح نموذج جديد أكثر ملاءمة لموسكو وتسمح لها بنشر قواتها وأسلحتها النووية في بيلاروسيا.

أرسلت موسكو بداية هذا العام قوات عسكرية إلى كازاخستان لدعم الرئيس توكاييف في موجة الاحتجاجات الشعبية ولإنهاء حالة ازدواجية السلطة مطيحة بالحرس القديم الموالي للرئيس السابق نورسلطان نزرابييف، مما منح موسكو هيمنة كبيرة على القرار السياسي لكازاخستان وعلى مواردها الهائلة التي يأتي على رأسها اليورانيوم، فضلاً عن احتمال انضمام كازاخستان إلى دولة الاتحاد مع روسيا وبيلاروسيا.

وفي القوقاز الجنوبي فرضت موسكو واقعاً جديداً في منطقة ذات أهمية استراتيجية بحكم موارد أذربيجان النفطية وموقعها على بحر قزوين، وبموجب الاتفاق الذي صاغته موسكو لإنهاء الحرب الأذرية الأرمنية ضمنت انتشاراً عسكرياً لها في إقليم "ناغورني قره باغ" الذي عاد إلى أذربيجان نتيجة الهزيمة التي سمحت موسكو بأن تمنى بها أرمينيا كعقاب لقادة ثورتها الملونة.

لا يمكن للمجال الحيوي الروسي أن يكتمل بدون استعادة أوكرانيا التي وصفها بريجنسيكي بالدولة المحورية جيوبوليتكياً لروسيا وبدونها لن تستطيع روسيا أن تكون دولة عظمى، هذا يخلق حافزاً كبيراً لدى بوتين لإخضاع أوكرانيا التي خرجت من نطاق الهيمنة الروسية بعيد ثورة الميدان 2014 مختارة أن تتجه غرباً، هذا الاتجاه تعزز لدى الأوكرانيين خاصة بعد الاحتلال الروسي للقرم ودعم موسكو للتمرد الانفصالي في الشرق الأوكراني، السعي الأوكراني لأن تكون جزءاً من منظومة حلف شمال الأطلسي للأمن سيقوض مكانة الدولة العظمى لروسيا ويشكل تهديداً عسكرياً لقلبها الأوروبي وحرية ملاحتها في البحر الأسود ويحشرها داخل حدودها الوطنية.

يشعر بوتين أنه يمتلك اللحظة التاريخية التي تمكنه من فرض مراجعة لقواعد اللعبة الدولية الحالية، وإجبار الولايات المتحدة على التفاوض على قواعد جديدة تعترف بروسيا قوة عظمى لها مصالح مصانة ومعتبرة وغير مقبول التدخل في شؤونها الداخلية ومجالها الحيوي الذي يشمل أوكرانيا والبحر الأسود، والمحذور التمدد خلف حدوده، هذه اللحظة صنعت عبر تطوير العقيدة العسكرية الروسية التي أصبحت ترى الحرب والسلام متكاملين في مسار متصل، ما تطلب تحديثاً شاملاً للقوات العسكرية وإمدادها بمنظومات وعتاد حديثين وتحسين قدراتها على النشر السريع للقوات مع الحفاظ على مستوى عال من الضبط والسيطرة، بموازاة ذلك طورت القدرات السيبرانية التي تلعب دوراً رئيساً في أي عمليات اختراق تتسبب في شل البنية التحتية الحيوية وعرقلة مقدرة الخصم على تنسيق مجهوداته، وأخيراً الاستخدام الواسع للقوات المتعاقدة "فاغنر" للقيام بعمليات قذرة خلف الحدود بدون تحمل تبعاتها وبتكاليف محدودة.

يستند بوتين في اندفاعه في هذه المغامرة إلى دعم صيني في الخلفية وضعف حلفاء الولايات المتحدة الأوروبيين الذين ساهم هو في تفاقم ضعفهم باستخدام سياسات الطاقة وألعاب الاختراق السياسي والمالي والمعلوماتي للجبهة الداخلية الأوروبية، وإدراكه أن الإدارة الأميركية الحالية هي إدارة انتقالية وغارقة في تحديات دولية عديدة أبرزها مواجهة الصين بالإضافة إلى التحديات التي يفرضها الوضع الأميركي الداخلي.

في الوقت الحالي، لن يكون بمقدور الأميركيين تقديم ما يرضي موسكو التي لن تتعجل الرد على إجاباتهم وتترك باب الحوار موارباً، فهي على الأقل أنجزت ما تريده من هذه المرحلة بفرض واقع جديد بدأ يتكون بالفعل.