سوريون نعم لكن ماذا بعد؟

2021.07.27 | 07:02 دمشق

idlib30.jpg
+A
حجم الخط
-A

"لا أحد في عجلة من أمره سواي" قالت امرأة لديها خمسة أطفال يتامى، تسكن في أحد مخيمات الشمال السوري، وأسهبت في الشرح، عمن يشاركها استعجالها للخلاص مما هي فيه، ممن يقطنون الخيام ومراكز الإيواء في شمال سوريا، ومن يعيشون دون حدّ الكفاف في عموم سوريا.

الأسد أكثر الرابحين من شراء الوقت في الوضع السوريّ، وكذا القادة العسكريون والأمنيون لديه، فهؤلاء رسّخوا آليات نهب مميزة خلال السنوات الماضية، وأي حل قادم سيوقف تلك الآليات، هذا إن لم يأخذهم إلى أماكن أسوأ، كأن يأتي يوم الحساب. على الجانب المعارض لن نعدم من هم الوجه الآخر لهؤلاء، ممن حظوا بامتيازات ومواقع، وبعض ما يعتقدون أنه نفوذ. ما الذي يجعل قائداً عسكرياً عاش ماضيا مريرا عليه وعلى أسرته أن يصبوَ إلى حلٍّ سيفقده ما هو فيه اليوم؟ هذا إن لم يتعرض هو الآخر للحساب. القادة العسكريون الذين شكلوا المحاكم الصورية واعتقلوا الناس في سجون شيّدوها في مناطق الحصار فيما مضى، وأزهقوا الأرواح تحت التعذيب. ما مصلحة كل هؤلاء بانتهاء كارثة السوريين المُستَنقعة منذ أكثر من عشر سنوات؟

هل ندرك نحن السوريين في الخارج التطورات الحقيقية في الداخل؟ وهنا أقصد بالسوريين القلّة من المهتمين بالشأن العام ومستقبل سوريا، وأقصد بالداخل ما يسمّى "المحرَّر".

كل وقائع الأرض تدلّل على أنه لم يعد هناك أية سيطرة لقوّة وطنية حقيقية مستقلة على أي بقعة في سوريا

إنّ مدى الانزياح في سلم الأولويات والاهتمامات خطير ويستحق التدقيق، ومع عدم إلغاء عوامل الزمن الطويل، وصعوبات العيش التي تستنزف الناس، إلا أن هؤلاء الذين كان عليهم الاختيار في لحظات محددة بين البقاء تحت سلطة النظام أو الترحيل القسري، فهجَروا مدنهم وقراهم وبيوتهم وتركوا كل ما يملكون، لم يعودوا هم أنفسهم بعد هذه السنوات. وكذا خياراتهم واهتماماتهم لم تعد كما هي، وهذا ليس ذنبهم. بعيداً عن نظريات المؤامرة، وبعودة سريعة للسنوات الأخيرة، وخصوصاً ما بعد سقوط حلب في أيدي النظام. فإن كل وقائع الأرض تدلّل على أنه لم يعد هناك أية سيطرة لقوّة وطنية حقيقية مستقلة على أي بقعة في سوريا. وهنا يجب أن نعترف بجرأة، أنه لم يعد هناك منطقة سوريّة محررة. وحسناً فعلت التشكيلات العسكرية (الجيوش) أنها سحبت كلمة "الحرّ" من مسمّياتها، ففي ذلك بقيّة احترام لتاريخ ثورة السوريين.

نعم هناك مظاهرات كل عدة أيام في إدلب، وهي تشير إلى أن جذوة الثورة ما زالت تسكن البعض. لكن العارفون بالأرض يعلمون أن روّاد هذه المظاهرة أحدُ ثلاثة أطراف. الأول تتهمه بقية الأطراف بأنه يدور في فلك هيئة تحرير الشام، أعضاؤه لهم غايات خاصة، أبرزها إعادة تسويق الهيئة وحكومة الإنقاذ، من خلال إظهار مناطق سيطرتهم بأنها تحظى بمناخات للحرية. والفريق الثاني يُكَنّونَ (جماعة العلم الأخضر) من المناهضين ضمنياً لسلطة الأمر الواقع، ويُتهمون أيضاً أنهم مدفوعون بأجندات مختلفة. كثيراً ما حدثت مناكفات بين الفريقين أدّت في إحدى المرّات لإقامة مظاهرتين في ذات التوقيت، الأولى عند الساعة لجماعة العلم الأخضر، والثانية عند دوار السبع بحرات لجماعة الهيئة، وبالمناسبة يرفع كلا الفريقين العلم ذاته ويهتفون ذات الهتافات. أمّا الفريق الثالث فهم ثلّةٌ ما تزال تجد متنفّساً من خلال التظاهر والهتاف للثورة، وهؤلاء يتناقصون تدريجياً لأسباب ليس آخرها تسرّبُ اليأس إلى أرواح بعضهم، فهم يرون أنفسهم كالوزير المنبوذ الذي لم يشرب بعد من نهر الجنون في مسرحية توفيق الحكيم. وبكل الأحوال لا يتعدى أعداد هؤلاء مجتمعين بضعة مئات قليلة.

بالعودة إلى واقع الناس يمكن القول بكل تجرّد إنّ السياسة الدولية التي سعت إلى تقزيم اهتمامات حاضنة الثورة السورية قد نجحت، ولا ينكر ذلك إلا متفائل ساذج، أو خائف من الحقيقة. حديث الشارع اليوم عن القرى التي تقوم بعض المنظمات ببنائها للمهجرين. بل وهناك تسابقٌ بين مجالس محافظات المهجرين لانتقاء أرضٍ من أراضي الأملاك العامة التي خصصتها وزارة التنمية في حكومة الإنقاذ لإنشاء هذه "الكانتونات". أليس هذا توطيناً، وتثبيتاً للتغيير الديمغرافي الذي كان مهندسه الأول نظام الأسد وحلفاءه؟

هناك تخصيصات بدأت لمهجري كل مدينة على حدة، بأراضٍ مما يسمى بأملاك الدولة، وهناك اعتراضات على أراضٍ خصصت لمهجري تلك المحافظة في مناطق أفضل مما خُصصت لمحافظة أخرى. نعم هكذا هو الحال في صراعات جانبية فرضتها السنوات المريرة. الصراع مستمرّ على الأراضي، ومستمر بين ملّاك البيوت والمستأجرين من المهجرين. الصراع مستمّرً في تشكيل فرق تطوعيّة جديدة تتهم السابقة بالمناطقية والتحزّب.  أمّا ما يُؤخذ من قرارات دولية بشأن سوريا، أو ما يُعقد من اجتماعات، فهذه قضايا تعتبر ترفاً لا يعني الغالبية.

ما سبق، وما نعلمه عن دخول استثمارات في مشاريع تجارية خاصة، عادة لا تجازف في المناطق غير المستقرّة، يدفع لسؤال يبدو منطقياً بل ووجيهاً. هل هناك اتفاق لا نعلمه، يقضي بأن تبقى أوضاع تلك المناطق على ما هي عليه اليوم. ليبقى بعدها الحديث عن وحدة سوريا مجرد هراء. الأسد يمكن أن يقبل بأي سلطة على أية بقعة، ولكن ماذا عن بقية السوريين الذين دفعوا أرواح أبنائهم بهدف بناء سوريا دولة موحدة بلا طغاة؟

مؤخراً، روى لي صديق تحرقه ما آلت إليه اهتمامات الناس في الداخل، بفعل ظروفهم القاسية أنه في سهرة عادية لأصدقاء، وهم من حملة الشهادات الجامعية والمتوسطة، سألَ عن مؤتمر أستانا 16 المنعقد أخيراً. فاجأه أن جميع الحضور أبدوا عدم معرفتهم بأن الاجتماع قد تم، وجميعهم لا يعلمون اسم أي شخص من المعارضة المدنية أو العسكرية ممن شاركوا بالمؤتمر. أحدهم وهو خريج جامعي، استدرك بالقول: "أنا أعرف اللي نام على صباطه، ورأيت صورته". حين علم البقية أن المقصود هو رئيس الوفد، استغربوا غزارة معلومات من تعرّف إلى المعارض من حذائه، وحسدوه على متابعاته الحثيثة، من دون أن يلفت الصديق نظرهم إلى أن تلك الصورة قديمة، ونُشرت قبل أكثر من ثلاث سنوات. هؤلاء ليسوا جهلة ولا أناساً غير مكترثين. هؤلاء طحنتهم ظروف سنوات التهجير. أنا أيضاً لا أعرف عن أستانا ولا أتابعه، منذ ما بعد حلقته الأولى واضحة المعالم والمآلات، وحتى حلقته السادسة عشرة. وللاستزادة، لا أعلم أيضاً عن أعمال لجنة صياغة الدستور. ولا كل اللجان المختصة بإعادة تدوير الكارثة السورية.

هل فاجأني الوضع في الداخل وانزياح الاهتمامات؟ لا، إطلاقاً. فالسوريون خارج سوريا ليسوا بحال أفضل، وهذا ما أعرفه ويعرفه الجميع. سألني أحد المعارف قبل فترة قصيرة: "هل صحيح أن نصر الحريري سقط؟ فقد رأيت منشوراً يشمت به". فأجبته بنعم. فأضاف بماذا سقط؟ رددت عليه: سقط بالبكالوريا، فضحك ولم يتابع الأسئلة.

انقلبت قائمة سلّم الأولويات، لتكون صدارة القائمة لكوخ استيطان، وسلّة طعام ممهورة بختم الأمم المتحدة

في الداخل، لا يتساءل المهجرون عن السبب السياسي لموافقة الروس على تمديد فتح معبر باب الهوى عاماً إضافياً، سؤالهم التشكيكيّ الدائم، هو عن فساد المنظمات التي تسلمهم المعونات الداخلة من ذاك المعبر. يقارنون بين أسعار المواد في إدلب ومثيلاتها في دمشق، ويعتبرون أن فضيلة سلل الإغاثة أنها أخّرت وقوفهم في الطوابير. نعم نجحت الخطة بالكامل. فانقلبت قائمة سلّم الأولويات، لتكون صدارة القائمة لكوخ استيطان، وسلّة طعام ممهورة بختم الأمم المتحدة.

ثانيةً. هل حال السوريين خارج سوريا أفضل لجهة المتابعة والاهتمام، إن لم نقل لجهة العمل من أجل إحداث أي فارق؟ بالقطع لا. ولكن يتصادف أن موضوع هذه المادة عن الأوضاع في الداخل.

هناك سؤال استنكاري قد يراود القارئ هنا حول بناء مساكن للمهجرين: ولكن، ألا يستحق هؤلاء سكناً لائقاً؟ الجواب نعم بالتأكيد. بل وأكثر. يستحقون كل حياة كريمة كباقي البشر. ولكن السؤال الأهم، هل ما يجري من مثل هذه الترتيبات منذ حوالي العامين هو سلوك بريء ومحض إنسانيّ من الأمم المتحدة والدول الداعمة؟ شخصياً، لا أظن.