سوريا ومنظمات المجتمع المدني (2)

2020.07.14 | 00:00 دمشق

awksfam.jpg
+A
حجم الخط
-A

منظمات المجتمع المدني في المحرر

فتحت الثورة السورية أبواباً كثيرة كانت مغلقة في مجال العمل الخيري، وأتاحت المجال لمنظمات المجتمع المدني والمؤسسات الأهلية أن تأخذ دوراً كان شبه مفقود من قبل، صيحة الحرّيَّة لم تُتِح مجابهة النظام الفاسد وحسب، بل أتاحت فرصاً كبيرة للعطاء، وإمكانية تحوُّل الإنسان السوري الحر من موقع المُشاهد العاجز، أو الفاعل المُقيّد، إلى الفاعل الحقيقي، فكان المشهد في البدايات مختلفاً، ومفعماً بالحماسة والعطاء والقوة.

لقد بادر الناس بشكل فطري للعمل الخيري، ومساعدة بعضهم بعضاً، شكّلوا مجموعات بتخصصات مختلفة، منها الطبي والإغاثي، ومنها المهتم بالتوثيق الحقوقي والإنساني، والإعلامي وغيرها، فكانت الجهود شبابية حرَّة، تعمل من تلقاء نفسها، وتنظّم نفسها بنفسها، وتحاول أن تقوم بدور شديد الصعوبة والخطورة، وهو أن تحافظ على الأمن الخاص بأفرادها، وفي نفس الوقت خدمة الناس ومساعدتهم وتلبية احتياجاتهم، وكانت الأدوار في أغلبها بعيدة عن المؤسساتية، قائمة على دعم الأفراد، ومبادراتهم التطوعيّة، ولم تسلم هذه التشكيلات والمبادرات من ملاحقة قوات الأمن لها، واعتقال أفرادها مما جعل من الصعوبة بمكان المتابعة على نفس الوتيرة، مما مهد الدور لدخول منظمات المجتمع المدني في الخارج إلى حيّز الحضور والفاعلية، وبدأت العمل بشكل واضح في المناطق التي يسيطر عليها الثوار، بينما عملت منظمات كثيرة في الخفاء، فكانت تقدم المساعدات بشكل حذر وغير ملحوظ لتخفف شيئاً من الآلام والأعباء والمآسي التي كان يتعرض لها الناس بشكل يومي.

في المدن والأحياء والمناطق المحررة بدأت منظمات المجتمع المدني تعمل، بأسماء وشخصيات معروفة، وأهداف واضحة غالباً، وأخذت تدخل مجالات مختلفة أهمها الطبي والإغاثي والتعليمي، وأيضاً كان للدفاع المدني دوره المهم والمؤثر في تلك المناطق كونها تتعرض لهجمات لا تتوقف من قبل النظام وحلفائه، لاحقاً ازدادت أعداد تلك المنظمات ازدياداً غير مدروس، وغير قائم على احتياجات، ولكنه قائم على ما كانت تراه المنظمات العالمية ضرورياً، فدخل الناس مع وجود هذا النوع من المنظمات دوامة جديدة؛ لأنها كانت خياره المتاح في واقع صعب وسيئ، وقد تجلى هذا الأمر كثيراً في المناطق المغلقة والمحاصرة، لأنها شكلت مجال العمل الأوسع للمحاصرين، والشباب الذين لا يجدون ما يعيلون به أسرهم، فالتحقوا بتلك المنظمات، وعملوا على برامجها المفروضة، وبذلوا جهوداً كبيرة في محاولة التأقلم والتوازن بين المطلوب وبين الموجود، فكان هذا التأرجح أكثر ما يؤرقهم.

وهناك فئة أخذت الموضوع على محمل توفر فرصة العمل لا أكثر، فلم يؤرقها كثيراً المضمون أو الاحتياجات، ووجهة نظرها إمكانية العيش ضمن المتاح والممكن، وبهذه العقلية، وفي غياب الرقابة العامة، والآلية الواضحة لاختيار الموظفين والإداريين والمتطوعين، بدأ العمل المدني يتحول إلى وظيفة بشكلها المهترئ، فأصبح التعيين وفق منهجية التزكية – أي الواسطة- بمعناها الحقيقي والمعلّب في أطر شكلية، وأصبحت مجتمعات الثورة تشهد ظهور مكاتب ومراكز لمنظمات مجتمع مدني تقوم عليها عائلات بأسرها، وفق ما يُعرف بنظام القبيلة، المدير والموظفون وحتى عمال النظافة والحارس قد عيّنوا وفق هذا النمط، فتفشى الجهل الإداري، والجهل الوظيفي في أوضح صوره، في حين حُرمت كفاءات كثيرة من فرص عمل تستحقها، مما دفع بها إلى اليأس والتراجع، والسفر أو التفكير بالسفر ومغادرة البلاد عند أول فرصة متاحة.

ربما كانت الحاجة، أو انعدام الرقابة، أو الخوف على المصير، أو ربما وجود الصالح والفاسد في مجتمع ليس ملائكياً، تظهر خفاياه وعيوبه بشكل واضح ومعلن عند الأزمات والشدائد، ربما كانت كلها عوامل هدمت صورة منظمات المجتمع المدني في عيون الناس، الذين باتوا مع طول زمن الثورة ينظرون إليها نظرة المُستغل لهم ولاحتياجاتهم، بات الخوف من الاقتراب والتصوير واضحاً ومؤلماً في آنٍ معاً، بسبب ممارسات خاطئة ولا إنسانية في التعامل بين المتبرعين والناس، فالشعب الذي ثار لأجل كرامته، لن يحتمل إهانتها بشكل من الأشكال، والشعب الذي من ثقافته العامة أن يحمد الله في أقسى حالات الحاجة والعوز وأن يقول " مستورة" عندما تسأله كيف الأحوال، كإشارة واضحة إلى أنه يعتبر الحاجة عيباً، فكيف له أن يتقبل أن يُستغل ويُتاجر به ولو بصورة! الشعب الذي اعتاد أن يعين ويساعد سرّاً وعلانية كل من هم أضعف منه، لم يكن ليحتمل أن يتحكم به جهلاء، أو أن تستغل ضعفه جهة، فكانت تلك الممارسات السيئة من بعض المنظمات هادمة للثقة العامة من الناس، أضف إلى ذلك خلوها من القيم الإنسانية في التعامل، وتجردها من أهداف الثورة، مما زاد الشرخ والفجوة ودفع الثقة إلى التراجع، لكن الصورة ليست سوداء بالمطلق، فهناك صور مشرقة لا بد أن تأخذ حقها في ظل الظلمة السائدة.

وللحديث بقية.