سوريا من الموت الأكبر إلى الموت الأصغر

2021.04.19 | 05:06 دمشق

_117563449_063d47c4-240d-4c1d-a028-15611c87bb5b.jpg
+A
حجم الخط
-A

منذ أن توقفت المعارك الكبرى في البلاد؛ أي حملة جيش النظام على إدلب وهجوم الجيش الوطني على مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية؛ بدا أن الحرب/ الحروب كفّت عن حصد أرواح كثيرة وربما شارفت على نهايتها، وإن بسبب تحاجز القوى الدولية المسلحة المتداخلة على الأرض لا نتيجة الوصول إلى حل من أي نوع، سياسي كان أم عسكري، ورغم استمرار العبوات والمفخخات «المقاوِمة»؛ الداعشية ضد سلطة قسد، والقسدية في مناطق النفوذ التركي.

لكن أبواباً أخرى «جانبية» للموت وجدت طرقها إلى المشهد، أو لعل الانتباه إلى آثارها وسماع حسيسها صار ممكناً بعدما هدأ صوت الطائرات والمدافع.

ما صارت تحمله الأخبار هو صدام بين مجموعة موضعية من هذا الفصيل مع جماعة نظيرة مجاورة على مركز ضئيل الأهمية

فالمعارك، التي كانت كبيرة، انحسرت إلى صدامات محلية يمكن رصد اشتعالها يومياً في إحدى أنحاء البلاد. لم تعد قتالاً بين الفصائل حتى، فقد أُنهِكت هذه من جهة، ونُظِّمت قسراً في بعض المواقع من جهة أخرى، وتوقفت هيئة تحرير الشام عن «التغلب» والابتلاع، مهتمة بهضم ما ازدرته وشرعنته. ما صارت تحمله الأخبار هو صدام بين مجموعة موضعية من هذا الفصيل مع جماعة نظيرة مجاورة على مركز ضئيل الأهمية. يصح هذا في الشمال كما يحدث مثله في مناطق الفوضى من سيطرة النظام، ولا سيما المستعادة خلال السنوات الأخيرة. وقد يحدث الصدام بين عائلتين مستقلتين أو مرتبطتين بفصائل، على موارد بسيطة أو بتأثير لجوء الأولى إلى منطقة سكنى الثانية. ولا ينحصر هذا في أرض النزوح الكبرى في الشمال، بل يتعداه إلى مواقع كثيرة كان منها مؤخراً بلدة السيدة زينب التي تحوي نسيجاً يُظنّ أنه متآزر من النازحين والمقيمين من الطائفة الشيعية.

وإلى ذلك، أدت عسكرة المجتمع وتسليحه إلى سهولة تشكيل العصابات. وهو ما يُلحظ في الشمال على نحو خاص. بهدف طلب الفدية من الأغنياء والوجهاء والمنظماتيين، مما يتداخل أحياناً مع «الاحتطاب» الذي تبيحه بعض الجماعات الجهادية الصغرى لنفسها بقصد التمويل إذ سُدَّت أمامها السبل. وهو ما يبدو، حتى الآن، ما حدث مع فايز خليف، مَن تسميه «حكومة الإنقاذ السورية» بإدلب «وزيراً للتعليم العالي»، فقد اختطف ثم عُثر على جثته بعد أيام. وحين أعلن «جهاز الأمن العام» عن القبض على العصابة التي ارتكبت ذلك عرض صور مجرمين جنائيين ومسروقات سابقة لهم، ثم قال إنه تتبّع أفراداً آخرين منها في ريف إدلب الشمالي. وحسب الأنباء قُتل في الاشتباك سفينة التونسي وأبا دجانة الليبي، وهما مهاجران عربيان معروفان قريبان من «حراس الدين».

ثلاثة عوامل «طبيعية» أخرى تسهم في رفع معدلات الموت بين السوريين، وإن كانت من آثار الحرب ونتائجها الأوسع؛ وهي حوادث السير والأزمات القلبية وكورونا. ينتقد أحد المطلعين إصرار وسائل إعلام معارِضة على البحث عن سبب خفي وراء مقتل بعض ضباط النظام بحادث مروري أو بجلطة، وتلميحها التآمري المتكرر إلى أن هؤلاء قضوا «في ظروف غامضة» ربما بهدف «إخفاء الشهود». والحال أن البنية التحتية للبلاد، والتي هرمت خلال العقد الماضي، لم تستثنِ الطرق التي تعرضت، أكثر من سواها، للخراب بفعل القذائف، فيما جرت عليها أعمال الصيانة بحدودها الدنيا نتيجة رداءة أعمال القطاع العام وتسخير الموارد للحرب. ونظير مناطق سيطرة النظام لا تتوقف أخبار حوادث السير في الشمال عن الورود. كما أن ظروف التوتر والاستنفار المستمر تركت آثارها على الضباط، وعلى عموم السوريين، مما جعلهم مؤهلين لأنواع عديدة من الهجمات الصحية الحادة التي ربما كانت مميتة. وأخيراً فإن البنى الطبية المتآكلة في عموم البلاد لا تشكّل حاجزاً مناسباً للوقوف في وجه جائحة خطرة ككورونا أنهكت منظومات صحية في دول كبرى، متقدمة ومستقرة.

أما الأزمة الاقتصادية المتزايدة فقد أبت إلا أن تسدد حصتها من فاتورة الموت. وإذا كانت لم تبلغ درجة المجاعة، كما يجري التحذير، فقد دفعت رجالاً وشباناً إلى الانتحار نتيجة ضغط مصاريف العائلة أو انسداد أفق المستقبل. لم تصل هذه الحالات إلى أن تصبح ظاهرة، لكن حتى عددها القليل مؤخراً ملحوظ وكفيل بإلقاء ظلاله الكئيبة على البلاد بسبب ما تحمله حوادث الانتحار من فجيعة وصدمة.

الوِزر في العربية هو الإثم. وما دامت الآثام تعم البلاد فلا خلاص من الحرب وإن جمّدت لوقت طال أو قصُر

يستخدم العرب لفظة «الأوزار» للتعبير عن حواشي الحرب. ومن تفسير مجاهد، التابعي الشهير، لجملة ﴿حتى تضع الحرب أوزارها﴾ سورة محمد، ينقل الرواة نصاً نقتبس منه: «حتى تذهب العداوة من الأشياء كلها». فالوِزر في العربية هو الإثم. وما دامت الآثام تعم البلاد فلا خلاص من الحرب وإن جمّدت لوقت طال أو قصُر، ولا تطهير للأشياء من العداوة قبل تغيير مَن نفثوا سموم الموت في مفاصل حياة السوريين. ببساطة لا سلام دون انتقال سياسي. بعده يمكن للبلاد أن ترسم مستقبلها في طريق نزع السلاح من أيدي الأفراد والجماعات، ودمج المقاتلين في جيش منظم لدولة تحتكر العنف، كما ينبغي، وإعادة إعمار البنى التحتية. هذا الطريق طويل وعسير لكنه وحيد. أما ما يجري في دمشق من إعداد شكلي للانتخابات الرئاسية فلن يفيد إلا في إطالة عمر «الأزمة»، ولا يعدو كونه حرباً باردة بعد توقف الساخنة وتجميد «حرق البلد»، واستمراراً للمعركة بأسلحة أخرى.