سوريا.. صندوق بريد الرسائل العسكرية الدولية وسلة مهملاتها

2023.03.28 | 05:55 دمشق

التصعيد الإيراني في سوريا
+A
حجم الخط
-A

هل باتت أميركا بهذا الضعف العسكري والسياسي لترد بحذر على اعتداءات إيران على قواتها الموجودة في سوريا، مع حرصها على التصريح المهذّب بأنها لا تريد صراعاً مع إيران؟

أن تقتل إيران أميركياً وتجرح خمسة جنود، أمر لا يمكن أن ترد عليه أميركا بمجرد قصف بعض المواقع الإيرانية في سوريا، فمهما كانت التعقيدات التي تمر بها السياسة الدولية ومهما كان حجم التهديدات التي تشكّلها إيران من خلال قدراتها التخريبية، فإنّ ذلك لا يمكن أن يكبل أيدي الأميركيين ويقعدهم عاجزين عن الرد الحقيقي الذي عودت أميركا خصومها الحقيقيين عليه.

منطقياً، فإن الرد الأميركي على اعتداءات إيران يتطلب بالحد الأدنى -إن لم يصل إلى درجة إعلان الحرب وإزالة النظام برمته- يتطلب ضربة موجعة لإيران في عقر دارها وليس في مكان بعيد هو عبارة عن ساحة معركة مختلطة، أو بشكل أدق عبارة عن صندوق بريد عام ترسل كل الأطراف الدولية المتصارعة رسائلها إليه ومن خلاله، وغالباً ما تضيع تلك الرسائل أو يتم تجاهلها من قبل أصحابها في زحمة البريد البطيء والمتردد والمهمل أصلاً.

كيف تتجرأ إيران على التحرش بالقوات الأميركية في تلك البساطة، من دون أن ينتابها القلق من رد الفعل الأميركي؟

طالما لم تصل الرسائل الأميركية على صندوق البريد الخاص بإيران، وعلى عنوانها الأساسي، فلن يحدث ذلك أثراً حقيقياً في المرسل إليه، بل سيقرأ هذا البريد على عكس مضمونه ويفسره بشكل مختلف عما أراده المرسل.

ولكن السؤال الذي لا يمكن تجاهله: كيف تتجرأ إيران على التحرش بالقوات الأميركية في تلك البساطة، من دون أن ينتابها القلق من رد الفعل الأميركي؟

إن أردنا فك الشيفرة الأساسية للعلاقة الإيرانية الأميركية، فعلينا أن نتعمق قليلاً في حقيقة العداء المعلن، وإذا ما كان عداء حقيقياً في جوهره، والأهم، أن نتأمل تاريخ ذلك العداء، فعلى مدار أكثر من 40 عاماً، أي منذ استيلاء الخميني على السلطة في إيران بعد انقلابه على الشاه، كانت أميركا تعادي إيران ظاهرياً، وأولى النتائج الملموسة والقيّمة لذلك العداء، تجسدت في تحقيق أميركا للحلم الإيراني القديم وهو الاستيلاء على العراق.

سيبدو لافتاً هنا، أن أميركا وكأنما خاضت حربها مع صدام حسين لصالح إيران، فكيف يمكن أن تتدخل أميركا لإسقاط نظام دولة وتسليم تلك الدولة لعدو أميركا ذاته؟ أو على الأقل السماح بمشاركة ذلك العدو في حكم العراق، أو في الحدود الدنيا الرضا والتسليم بدور إيران المحوري في القرار العراقي؟

في هذا الإطار، لا يمكننا العبور على مرحلة لم تزل تداعياتها حاضرة في إطار العداء المزعوم بين أميركا وإيران، مرحلة لا يمكن أن تتلاشى من ذاكرتنا المرهقة بزخم الأحداث وزخم الأزمات والنكبات والمآسي التي يتعرّض لها الشعب السوري، وهي مرحلة علاقة أميركا بإيران خلال الثورة السورية، ففي الوقت الذي كان فيه الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما يحصي أيام بشار الأسد ويصفها بـ"المعدودة"، ويجزم بحتمية رحيله ويطالبه بالتنحي، في ذلك الوقت بالذات كان الرئيس الأميركي يعيش شهر عسل مع إيران الداعم الأساسي للأسد، بل ربما كان المشروع الوحيد لأوباما في ذلك الحين هو هندسة العلاقة مع إيران ودعم مشاريعها المتعددة سواء ما يتعلق بوجودها في سوريا، أو بتمتين سلطتها على العراق، أو بإعطائها الهامش الأوسع في اليمن، فضلاً عن مباركة سطوتها على لبنان من خلال حزب الله.

ربما كانت موافقة أميركا على بقاء نظام الأسد أكبر دليل على جوهر العلاقة الأميركية الإيرانية، والتي لا توحي بحالة عداء حقيقية، حيث سارت الأمور في سوريا تماماً كما تشتهي إيران، وها هي اليوم تحظى بنصيب كبير من أشلاء الفريسة المغتصبة (سوريا) دون أن يعلو صوت أميركا إلا بتأكيدها على ضرورة التخلص من تنظيم الدولة وتبرير استمرار وجودها المحدود في سوريا لاستمرار مطاردة ذلك التنظيم، في الوقت الذي يشهد تلاشياً فعلياً للتنظيم ووجوداً إيرانياً حقيقياً، مما يوضّح بجلاء أن نظام الأسد -الذي ما تزال أميركا تناصبه العداء (ظاهرياً)-، والوجود الإيراني الكبير في سوريا، لا يعدان أمراً مقلقاً لأميركا.

أكثر من 40 عاماً وما تزال أميركا تهدد إيران وتتوعدها، ولكنها لا تفعل شيئاً مما تقول ولا تترجم تصريحاتها إلاّ إلى أفعال متناقضة مع تلك التصريحات، لم تعرقل أميركا أياً من مشاريع إيران التوسعية، بل حتى مشروعها النووي الذي توحي كل المعطيات بأنها أنجزته أو أنها على وشك أن تفعل.

كل التفسيرات يمكن أن تكون مقبولة في هذا السياق، باستثناء أن تكون أميركا عاجزة عن لجم إيران، أو الإطاحة بنظامها من دون أن تعير اهتماماً لتحالفاتها الدولية، حتى لو كانت أميركا في أضعف حالاتها اليوم.

وللوصول إلى جوهر العلاقة الإيرانية الأميركية، لا بد لنا أولاً أن نتخلص من المسلمات السياسية وعلى رأسها مسلمة العداء الأميركي الإيراني الذي يتسيد خطاب الطرفين، ربما لا يستقيم الحديث هنا عن علاقة صداقة أيضاً، ولكن يمكن توصيف تلك العلاقة بأنها علاقة وظيفية بالدرجة الأولى، هي أشبه ما يكون بعلاقة البلطجي مع قيادة دولة فاسدة، فهي تستخدمه وتدعمه وتحميه في السر، في الوقت الذي تعلن فيه عن مطاردتها له وتتوعده بالمحاسبة في العلن وذلك درءاً للشبهات، وللحفاظ على صورة الدولة التي تطارد المجرمين فيما تعتمدهم كإحدى الأدوات الرئيسية للترهيب وتنفيذ عمليات قذرة لا تحاسب عليها الدولة، ومَن أكثر من نظام إيران كفاءة للقيام بدور ذلك البلطجي؟

بات من الواضح تماماً أن إيران بالنسبة لأميركا هي إسرائيل ثانية، أو الجناح الآخر لإسرائيل، الجناح الأكثر تشدداً ووحشية وقدرة على الإجرام اللامحدود، بل هي أيضاً وسيلة لتنظيف سمعة إسرائيل، فبدلاً من أن ترتكب إسرائيل جرائم كبيرة وتلطّخ سمعتها الديموقراطية المزيفة أصلاً، فإن البلطجي جاهز لارتكاب تلك الجرائم بالنيابة..

لقد بات من الواضح تماماً أن إيران بالنسبة لأميركا هي إسرائيل ثانية، أو الجناح الآخر لإسرائيل، الجناح الأكثر تشدداً ووحشية وقدرة على الإجرام اللامحدود، بل هي أيضاً وسيلة لتنظيف سمعة إسرائيل، فبدلاً من أن ترتكب إسرائيل جرائم كبيرة وتلطّخ سمعتها الديموقراطية المزيفة أصلاً، فإن البلطجي جاهز لارتكاب تلك الجرائم بالنيابة، ومن هنا تكون إيران ضرورة أميركية إسرائيلية مشتركة يمكن محاسبتها فقط إن تجاوزت الحدود المسموح بها ومعاقبتها كمعاتبة الصديق، وذلك بضرب بعض أهدافه خارج ملعبه، وبالتحديد في الملعب السوري المليء بالفوضى السياسية والعسكرية.

الأمر ينطبق تماماً على علاقة إسرائيل بحزب الله، فمن غير المنطقي أن تعجز إسرائيل عن حسن نصر الله أو ضرب الحزب كله وإنهائه، لكنها لو أنهته في حرب 2006، فمن كان سيقتل السوريين ويدمر سوريا ويفتتها؟

لدى أميركا اليوم ذات الذريعة التي شنت من خلالها الحرب على العراق، لشن حرب على إيران، مع فرق واضح وهو أن تخصيب اليورانيوم وهدف الوصول إلى القنبلة النووية هو حقيقة في إيران، فكيف يمكن لأميركا أن تخوض حرباً على دولة للاشتباه في امتلاكها أسلحة كيمائية، -كما حدث في العراق- وتداور مع دولة أخرى تسعى حقيقة لامتلاك السلاح النووي بل وقطعت شوطاً كبيراً في ذلك؟

الأمر ينطبق أيضاً على العلاقة بين النظام السوري وإسرائيل، ذات الخصومة المعلنة، وذات التحالف السري، والدور الوظيفي للنظام لصالح المشروع الإسرائيلي، فإذا كانت إيران بلطجياً إقليمياً يلعب للصالح الأميركي، فإن النظام هو بلطجي محلي يلعب لصالح إسرائيل في نهاية المطاف، وكل ما يزرعه النظام من قتل ودمار وتشريد وتهجير تحصده إسرائيل في النهاية، والنتيجة خير دليل، لقد خرجت سوريا تماماً من المعادلة وجرّدت من كل قوتها التي كان من الممكن أن تهدد إسرائيل في المستقبل وكل ذلك عن عن طريق البلطجي التابع لها وهو نظام الأسد.

وكما فاجأنا الأميركان بسكوتهم عن بشار الأسد وعن عمليات التطبيع الجارية مع نظامه، سيفاجئوننا أيضاً بأن كل تصريحاتهم عن إيران هي محض استهلاك، إلا إذا تحوّلت إيران إلى خطر حقيقي على أميركا، وذلك أمر ما يزال مستبعداً على المديين المنظور والبعيد.

فضلاً عن كل ذلك، فإن إدارة الصراعات العسكرية للمتصارعين على أرض محايدة، أرض لا تعنيهم، يخفف الكثير من الأعباء على تلك الدول المتصارعة، ويبعد المخاطر عنها، وفي كل الأحوال ستبقى سوريا صندوق البريد المخصص لرسائل الدول المتصارعة، وستكون في نفس الوقت سلة مهملات تلك الدول حينما تريد حذف رسائلها القديمة.