سوريا... بين احتلالين وجلاء واحد

2020.04.23 | 00:01 دمشق

yd_aljla.jpg
+A
حجم الخط
-A

لربما كان من بين الأسباب الرئيسية، لاحتلال القوات الفرنسية سوريا عام 1920، قطع مسيرة بناء الدولة الوطنية، التي بدأها الحكم الفيصلي مع نخبة من السوريين المجتمعين على بناء دولة تقرّ بحقوق مواطنيها عبر دستور حديث، إضافة إلى تقاسم مناطق الإمبراطورية العثمانية مع الإنكليز والتشريع لقيام كيان إسرائيلي في فلسطين، من خلال اتفاق سايكس-بيكو المعروف، ووعد بلفور الذي تلاه بعد عام، الذي ما تزال تداعياته جاثمة فوق صدور السوريين والمنطقة، وتعيق أي محاولة لنهوضهم.

ولضمان نجاح غايات قوى الاحتلال، وهي منع أي تطور ونهوض لهذه البلاد، عمدت إلى انتهاج سياسة تمزيق البلاد التي تهدف إلى تعميق الصدوع الاجتماعية القائمة (العرقية والدينية والمذهبية) من خلال الاعتماد على أبناء الأقليّات العرقية والمذهبية في تشكيل قوات الأمن والجيش، لمواجهة الثورات التي اندلعت في البلاد ضد سيطرتها، ناهيك عن محاولاتها في خلق كيانات متعادية "دويلات" مرهونة باستمرارية بقاء قوات الاحتلال، وأكثر ما نجحت به هو تشكيل ما عُرف لاحقاً باسم "جيش الشرق"، المكوّن في معظمه من أبناء تلك الأقليات.

مع انتهاء الحرب العالمية الثانية وتقاسم النفوذ العالمي بين الدول المنتصرة، ونتيجة  كفاح السوريين العسكري والسياسي مدة 26 عاماً؛ حصل السوريون على استقلالهم في 17 نيسان 1946، لكن ما ورثوه عن ذلك الاحتلال هو تلك الطغمة العسكرية المتعالية على الشعب إلى حد العداء، التي اعتبرت أن من حقّها -مثل حق الحاكم العسكري الأجنبي- حكم البلاد والعباد، والتي سرعان ما انقضت على الحكومة المدنية بانقلابها الأول في آذار 1949 بقيادة الزعيم، الذي كان مقدمة لانقلابات عديدة، انتهت مع ما يُعرف بعهد الديمقراطية في سورية الذي لم يدم سوى سنوات قليلة (1954 -1958).

عادت الانقلابات من جديد إلى سورية مع انقلاب الانفصال في أيلول 1961 عن الجمهورية العربية المتحدة، تلاه الانقلاب الأول "العقائدي" في آذار 1963، الذي كان مقدمة لعودة سيطرة الجيش على البلاد، لكن بطعم عقائدي، واحتكار المجال العام، وضمناً السياسة، بحيث أسس لحالة جديدة. أما خاتمة تلك الانقلابات فكانت مع وصول حافظ الأسد إلى السلطة عام 1970، بعد انقلابه على رفاقه في الحزب، واللجنة العسكرية -التي شكلوها في مصر أيام الوحدة، من الأقليات لكن بغالبية علوية (عمران، جديد، الأسد) على غرار سياسة الاحتلال الفرنسي في تمزيق البلاد- الذي ما يزال جاثماً على صدور السوريين حتى اليوم عبر وريثه الذي رهن البلاد وهجر وقتل العباد.

منذ ذلك العام، سوريا تئن تحت حكم العائلة الأسدية الذي تحول إلى كابوس يرافق السوريين في كل تحركاتهم

منذ ذلك العام، سوريا تئن تحت حكم العائلة الأسدية الذي تحول إلى كابوس يرافق السوريين في كل تحركاتهم، ليست السياسية فقط، بل حتى ما يتعلق بحياتهم اليومية. ومع مرور الزمن، حوّل الأسد، بعد أن ركّز السلطة بيده من خلال "مؤسسة" الرئاسة، البلاد إلى مزرعة لعائلته، وتخلّص من كل خصومه تباعاً، ومن ضمنهم رفاق الأمس. وسرعان ما انتشرت أجهزة السلطة تلك لتحتل كل مفاصل المجتمع، ولتصبح أيام الاحتلال الفرنسي، مقارنة بهذا الاحتلال الأسدي، مادةً للتندر عند السوريين. فالمقارنة بين محاكمة المناضل إبراهيم هنانو أمام المحكمة العسكرية عام 1922، الذي قاد ثورة ضد الفرنسيين في الشمال، ومحاكمة المعتقلين السياسيين في عهد الأسد، تكفي لتبيان مدى وحشية الاحتلال الأسدي مقارنة بسابقه الفرنسي، ففي الأولى، أطلق القاضي الفرنسي سراح هنانو معتبراً ثورته ثورة سياسية مشروعة، على الرغم من مطالبة النائب العام الفرنسي المحكمة بإعدامه، بينما لا تستغرق المحاكمات في عهد العائلة الأسدية سوى دقائق، تنتهي بإصدار الحكم من دون سماع أي كلمة من المعتقل.

لكن الشعب السوري الذي قاوم الاحتلال الفرنسي، تحرّك أيضاً ضد الاحتلال الأسدي، في مناسبات عديدة، كانت ذروتها عام 2011، مع انطلاق الثورة التي نشدت الكرامة والحرية، وما يزال السوريون مستمرين في ثورتهم حتى اليوم، على الرغم من خفوت وهجها وقلة حيلتها أمام قوة الاحتلال الأسدي وبطشه، حيث واجه هذا النظام الناسَ بكل أشكال القتل والدمار، وتفوّق في الوحشية والبطش على الاحتلال الفرنسي، وعندما عجز عن كسر السوريين، لجأ إلى استجلاب القوى الأجنبية لتشاركه في قتل تطلعات السوريين، بل في إبادة من يرفض الخضوع لهم، في أكبر عملية إبادة وتهجير، رداً على ثورتهم التي طالبت بحق الشعب في التحرر من طغيانه.

أمام تلك الوحشية، يبدو مفهوم المعارضة، الذي يتداوله السوريون في مواجهة هذا الاحتلال المركب، بائساً وترفاً ولا يلبي شيئاً من طموحاتهم، فكثيراً ما يشير هذا المفهوم "المعارضة" إلى بلد مستقر يعيش حياة سياسية طبيعية، من انتخابات يتنافس فيها أحزاب وأفراد، ودولة تحافظ على مصالح الجميع، أما في حال سوريا ونظامها المتوحش، لربما تكون المقاومة بكل معانيها هي طريق التحرر، مثل كل حركات التحرر من الاحتلال في مختلف دول العالم والعصور، وهي حقّ مشروع وبكل الوسائل، رغم الحال التي وصلت إليها البلاد، حيث تحولت فيها البلاد إلى ساحة للتنافس الدولي والإقليمي، لا تضع وزناً لتضحيات ومصالح السوريين.

 يستذكر السوريون في هذه الأيام تحرر بلادهم من المستعمر الفرنسي، بحسرة وألم، أمام طغيان الاحتلال الأسدي، الذي خان الشعب والأرض، ودمّر البلاد وهجّر الناس، ومارس القتل والسلب والإذلال والإفقار، وجلب الغزاة والعصابات، حتى نسي الناس جرائم المحتل الأول وكأنها لم تكن جرائم بالقياس إلى الجرائم التي أنتجها نظام الاحتلال الأسدي..

تمرّ ذكرى الجلاء بمرارة وقهر، وعيون الشعب السوري تتطلع إلى التحرر من الاحتلال الأسدي وشركائه الأجانب، وكلّهم إيمان بأنهم سيعودون إلى أرضهم، وبأن أرضهم ستعود لهم، مهما فعل العملاء من جرائم، ومهما طال الزمن وزاد الألم، فالمحتلون إلى زوال.