سوريا.. الحكومة الفاسدة والقيادة الحكيمة

2022.04.20 | 02:43 دمشق

rhrth.jpg
+A
حجم الخط
-A

إنهم ينتقدون الفساد، ثمة من يجرؤ على الانتقاد والتصريح وهو في مناطق سيطرة العصابة التي اختطفت سوريا وجعلت من أهلها رهائن، إعلاميون وسياسيون واقتصاديون وفنانون وشخصيات عامة تكتب على صفحاتها على الفيس بوك، تغرد على تويتر، تدون على كل وسائل التواصل الاجتماعي الأخرى، تنتقد وتفنّد وتحلل وتتهم وتحاسب وتتوجع، أو تدّعي ذلك، وتشتم أحياناً..

وفي رمضان، تفاجئك أعمال درامية وهي تشرّح شخصيات ذات سطوة ونفوذ، شخصيات محسوبة على الحكومة، وتواجهها بحقائقها وارتكاباتها، وتشير إليها بالبنان، دون أي خوف من ردود أفعال العصابة الحاكمة. خذ على سبيل المثال لا الحصر مسلسل "كسر عظم"، المتفق على جرأته وقدرته على كشف المستور، وفضح شخصيات لها مواقعها ونفوذها، ومع ذلك كله لا تتم محاسبة أولئك الممتعضين "الثائرين" ضد الفساد، ولا منع لتلك الأعمال التي تكشف الفاسدين، بل يتم عرضها على تلفزيونات النظام نفسها!

مستوى الجرأة في الانتقاد وكشف الفساد يدهش المواطن السوري البسيط المحاصر بالخوف والتهديد والقمع، ويصدّر صورة للخارج عن المستوى العالي للديمقراطية في بلد يحكمه طاغية، أليست تلك حرية رأي؟ ألسنا إذاً في "دولة" لا يريد قائدها لأحد أن يسكت عن الخطأ؟ وكيف نتهم "الدولة" بالقمع وتكميم الأفواه، فيما الكثير من مواطنيها ومثقفيها ينعمون بالقدرة على البوح وإعلان مواقفهم التي تدين الفساد؟

في هذا السياق علينا التفريق بين مفهوم الحكومة ومفهوم القيادة، ففي الأنظمة الشمولية المعادية للديمقراطية، يحرص الطغاة على التنكر بثياب الفضيلة، وانتزاع الاعتراف بديمقراطيتهم من قبل المواطن تحت تهديد السلاح، فهم (القادة) المرجع الأعلى للوطنية، وهم من يحددون شكل القيم ويحتكرون الحقيقة، ويفرضون الرواية التي يرتؤونها بالقوة، وعلى الأتباع والأبواق إيجاد المخارج والتفسيرات والتحليلات المناسبة لترّهات القادة، والبحث عن البراهين التي تثبت صدق كذباتهم مهما كانت متناقضة وغير قابلة للإقناع، فمتى حضرت القوة غاب المنطق..

السارق المحترف يخطط ولا ينفذ بيده وحينما تنكشف سرقاته يكون في طليعة الذين يدينون فعل السرقة، ومن المساهمين في البحث عن السارق، والمطالبة بمحاكمته

القادة أبرياء دائماً في الأنظمة الشمولية، نظيفو اليد، أصحاب رؤية وضمير، ولكي يستطيعوا أن يكونوا كذلك، وأن يقنعوا الرعية ببراءتهم تلك، فلا بد من جسد يلبس الثياب القذرة، وتلك هي الحكومة.

السارق المحترف يخطط ولا ينفذ بيده وحينما تنكشف سرقاته يكون في طليعة الذين يدينون فعل السرقة، ومن المساهمين في البحث عن السارق، والمطالبة بمحاكمته، يفوز السارق المحترف بالسرقات ويقذف بالأداة التي نفذت خططه إلى التهلكة.. السارق المحترف يرسم ويخطط ويقرر، ثم يضحي بالمنفذ إن اقتضى الأمر.

الحكومة في سوريا في حقيقتها ما هي إلا تلك الأداة التي يتم اختيار أفرادها بعناية وانتقاؤهم من بين أصحاب الكفاءات والمهارات الكبيرة في صناعة الفساد وهندسته وتنفيذه مع ضمان قابليتهم للخضوع لأوامر القيادة حتى وإن ضحت بهم، هي حكومة مصنوعة من أجل ممارسة الفساد دون أن تمتلك حق القرار في أي من المهمات التي تنفذها..

من هنا نستطيع تفسير تلك الازدواجية التي تؤسس لها الأنظمة الشمولية عمداً والتي تفرق بين الحكومة والقيادة، ففساد الحكومة لا يلغي نزاهة القيادة المشغولة بالقضايا المصيرية، ليس لدى القائد وقت لمتابعة القضايا الصغيرة المتعلقة بتفاصيل حياة الناس اليومية وهمومهم المعيشية، وحتى الفساد المستشري في البلد، فذلك كله من اختصاص الحكومة..

عودة الحديث عن الفساد بقوة في الآونة الأخيرة، لم تكن بسبب استشرائه وتضخمه، ففي كل فترة حكم الأسد لم تنقص نسب الفساد، ولكن الحديث المكثف عن الفساد في الفترة الحالية هو أمر يخدم القيادة خدمات جليلة، فمن ناحية، الفاسد هو الحكومة لا القيادة، ومن ناحية أخرى وأهم، فإن الحديث عن الفساد من شأنه إشغال الناس بقضية ثانوية وإيقاف الحديث عن القتل وعن الجرائم الكبرى التي ارتكبت في السنوات الإحدى عشرة الماضية من قبل القيادة والتي ما تزال ترتكب بشكل يومي وممنهج حتى الآن، إشغال المواطن بقضايا الفساد يبعده أيضاً عن الحديث عن الاحتلالات المتعددة، عن بيع الوطن، والتبعية وفقدان السيادة، ومشكلات المهجرين والمعاقين، ويصدر جوهر المشكلة في سوريا على أنها متركزة في الفساد، فأنْ تتهم سوريا بالفساد أخف على قيادتها من التركيز على الجريمة، والفساد موجود في كل دول العالم بما فيها دول العالم المتحضر، وما سوريا إلا جزء من هذا العالم، ومن هنا تكون ارتكابات العصابة جزءاً من الارتكابات التي تحدث في كل الدول الأخرى.

ربما كان تركيز الحديث عن الفساد جزءاً من خطة إعادة تدوير الأسد حتى وإن ثبتت عليه قضايا الفساد، فمشكلة المجتمع الدولي مع بشار الأسد تتمثل بأنه قاتل لا سارق، سفاح لا فاسد، وهنا يلعب ترسيخ صورة الفاسد دوراً في إبعاد -أو استبعاد- التهم الكبرى التي من شأنها جر الطاغية إلى المحاكم الدولية، بينما تبقى تهم الفساد مهما عظمت، شأناً داخلياً لا يحق للمجتمع الدولي التدخل فيه.

العصابة الحاكمة لا تتغاضى عمن ينتقدون، بل تطالب بالنقد والتذمر والشتيمة والاتهامات التي تطول الحكومة لا القيادة..

من هنا فقد تركز حديث أبواق النظام وأتباعه في السنوات الأخيرة على مفهوم "الدولة السورية" كمنتج يصدر للخارج، بدلاً من تعبير "سوريا الأسد" المخصص للخطاب المحلي/الداخلي، واللافت أن استخدام تعبير "الدولة السورية" يزداد طرداً مع الانهيار الكبير لمفهوم الدولة، قبل الثورة أبقى الأسد على ما يشبه الدولة من حيث الشكل الخارجي، وجاءت الثورة لتخلع ورقة التوت عن بقايا ما يشبه الدولة، ويبدو أن الإلحاح في استخدام مصطلح الدولة متفق عليه ويتم وفق أوامر عليا كحالة تعويض عن هذا الانهيار، ويبدو أيضاً أنه محاولة إنكار للواقع المتردي بادعاء واقع بديل، فالدولة السورية هي الأسد ذاته، هي القائد الذي تحول إلى مفهوم مقدس لا يمكن المساس به أو انتقاده أو التشكيك فيه، بينما يتم توجيه كل النقد إلى "الحكومة".

هكذا فقط يمكننا قراءة المشهد بعمقه الحقيقي، فالعصابة الحاكمة لا تتغاضى عمن ينتقدون، بل تطالب بالنقد والتذمر والشتيمة والاتهامات التي تطول الحكومة لا القيادة..

تلعب الحكومة في سوريا إذاً دوراً وظيفياً أساسياً يتمثّل في تحميلها كل الأخطاء التي ترتكبها القيادة، في حين يتوجب على القيادة أن تحاسب الحكومة، تقيلها، تغيرها، تعدل فيها، تسجن بعض فاسديها الذين اختارتهم ودعمتهم وجهزتهم ليكونوا أضاحي لها وقت الحاجة..

ومع أن المشهد بالغ الوضوح، إلا أن كثيرين من السوريين تتم خديعتهم بسهولة حينما يسمح القائد بطرح قضايا الفساد على الرأي العام من خلال وسائل إعلامه، وبات لزاماً على المخدوعين أن يدركوا جيداً أن القضية السورية لا يمكن اختصارها بالفساد، لأننا بهذا نكون قد شطبنا سجل أحد عشر عاماً من الجريمة المستمرة، أحد عشر عاماً من القتل والتدمير والمجازر وجرائم الحرب والتهجير والتغيير الديموغرافي وجلب الاحتلالات والتضحية بسوريا كلها في سبيل بقاء رأس العصابة على كرسيه، ومن ثم اختصار كل جرائمه بقضايا فساد يتم تحميلها للحكومات المتعاقبة فيما يبقى القائد بلا بديل، يبقى إلى الأبد.

ووفق تلك المعادلة يستطيع السوري أن ينتقد الحكومة العاجزة فعلياً عن أي تغيير حتى وإن أرادت، والتي يتم تشكيلها بهدف انتقادها وشتمها وتحميلها مسؤولية كل التجاوزات حتى وإن لم تكن مسؤولة عنها فعلياً، وعلى السوري أن يحفظ الدرس جيداً: الحكومة للانتقاد، والقيادة للتقديس.