سوريا الجلاء أم سوريا الاستقلال؟

2022.04.19 | 06:35 دمشق

der-alzor1946.jpg
+A
حجم الخط
-A

قبل 2011؛ كان معظم السوريين يهربون، أو الأصح يتهربون من الاحتفالات التي تُقام في مناسبات يرون أنها لا تعبر عنهم، كعيد الانقلاب العسكري الذي قاده الضابط زياد الحريري وأتى بحزب البعث إلى السلطة في 8 من آذار 1963. ويوم تأسيس حزب البعث في 7 من نيسان 1947. وذكرى نكبة البلاد الكبرى التي سميت الحركة التصحيحية، في 16 من تشرين الثاني 1970.. وحينما يجدون أنفسهم في منأى عن الأخطار الأمنية يسارعون إلى الاستهزاء بالمسيرات الجماهيرية التي يُجْبَرُون على المشاركة فيها، ويسمونها (المُسَيَّرات)، ويشبّهونها بسباق الكلاب: ركض وغبرة وقلة قيمة.

ولكن؛ يبدو أن الإنسان، بطبعه محب لأن يحتفل بمناسبة ما، لذلك كان السوريون يجتمعون على حب يوم السابع عشر من نيسان، ويعتبرونه عيداً وطنياً حقيقياً لهم، يحتفلون به في كل سنة، إلى جانب الأعياد الدينية، ورأس السنة الميلادية.

ولا شك في أن نظام الأسد كان يدرك هذا الميل عند الشعب، فجعل 17 من نيسان يوم عطلة رسمية للمؤسسات والدوائر الحكومية، وكأنه يقول لهم "الفرح في القلب يا جماعة"! ويتيح لهم، بذلك، فرصة الخروج إلى البراري في هذا الربيع الطلق الذي أتاهم يختال ضاحكاً - كما يقول البحتري - من الحسن حتى كاد أن يتكلما..

كان هناك فصيلان سياسيان، يحتفلان بعيد الجلاء - على طريقة السيران الشامي - هما الحزب الشيوعي "بكداش"، والحزب الشيوعي "يوسف فيصل".. في محافظة إدلب، مثلاً، كان كل من ذينك الفصيلين يخرج إلى مكان فسيح في البراري، ومعه مأكولات ومشروبات ومطرب يغني لسوريا، وللحزب، والأممية، والنضال بأشكاله المتنوعة، والشباب (وبعض الصبايا) يرقصون، ويزيد مطربُ الفصيل البكداشي في القصيد بيتين، فيغني هاجياً البروسترويكا والغلاسنوست وغورباتشوف، وحسني مبارك، والمجتمع المدني، بالإضافة إلى المهجوات الأساسية مثل أميركا والإمبريالية والرجعية..

السواد الأعظم من الذين تحدثوا في خطاباتهم عن الجلاء، أو كتبوا عنه في الصحف، طوال ثلاثة أرباع القَرن التي مضت، لم يقدموا لنا حكايةً، أو سردية واضحة ومتكاملة يمكن تدريسها للأولاد في المراحل الابتدائية، عن سوريا

هذه المشاعر الوطنية، ليست موجودة لدى الشيوعيين وحدهم، بل لدى عموم السوريين، وبنسب متفاوتة، وهي مشاعر طيبة بالطبع، وجميلة، ولكنَّ مَن عاش القسمَ الأكبر من حياته في سوريا، مثل محسوبكم، لا بد أن يخرج من مولد الجلاء واحتفالاته بلا حمّص.. لأن السواد الأعظم من الذين تحدثوا في خطاباتهم عن الجلاء، أو كتبوا عنه في الصحف، طوال ثلاثة أرباع القَرن التي مضت، لم يقدموا لنا حكايةً، أو سردية واضحة ومتكاملة يمكن تدريسها للأولاد في المراحل الابتدائية، عن سوريا، تاريخياً، وجغرافياً، وديمغرافياً، وعمرانياً، ولم يجيبونا عن الأسئلة الكثيرة التي تتزاحم على ساحة تفكيرنا؛ مِن قبيل: متى تحررت سوريا؟ وكيف ومتى جُردت من مفهوم "سوريا الكبرى"؟ ومتى اتخذت شكلها الحالي الذي تُدَرَّسُ خارطتُه في المدارس؟ وهل يجب أن نعتمد الآن الخارطةَ التي تتضمن اللواء، أم خارطة ما بعد اللواء؟ وهل يجدر بنا أن نعترف بحدود سايكس بيكو الأولى، أم المعدلة؟ أم نرفض سايكس بيكو نهائياً ثم لا نعرف لسوريا حدوداً كباقي دول العالم؟ وماذا نفعل بما يسمى "سوريا الطبيعية" التي يقول المؤرخ يوسف الحكيم، في كتابه "سوريا في العهد الفيصلي"، إنها كانت، سنة 1918، مقسمة إلى ثلاث ولايات هي حلب وسوريا وبيروت؟ وهل صحيح أن الفرنسيين هم الذين وحدوا الدويلات السورية سنة 1920؟ وهل نسمي الذين شكلوا مجموعات مسلحة ليقاوموا الوجود الفرنسي مجاهدين؟ أم ثواراً؟ أم جَتَا؟ وهل قاموا جميعهم بثوراتهم لأجل سوريا؟ أم أن بعضهم ثاروا لأغراض وأجندات غير وطنية؟ وما حكاية الحكم الذاتي الذي أعطته فرنسا لجبل الدروز 1922؟ ولماذا لم تعط حكماً ذاتياً لمناطق سورية؟ وما حكاية "أدهم خنجر" الذي كان هارباً من الفرنسيين واستجار بسلطان باشا الأطرش فأجاره؟ وهل كان أدهم خنجر هو السبب في انتفاض جبل العرب، وتحوله إلى معقل للثورة السورية الكبرى بعد انضمام الدكتور عبد الرحمن الشهبندر إليها؟

والحقيقة أن كل شيء يتعلق بهذه الأسئلة موجود في المراجع المتاحة عن سوريا، ولكنه ليس مرتباً، ولا متسلسلاً، ولا مُفَقَّطَاً، ولا مُعْتَمَدَاً بوصفه تاريخاً رسمياً للبلاد. وتكاد تكون السمة الغالبة على القضية الوطنية السورية هي الخطابات، وهذه، بزعمي، المصيبةُ الحقيقية التي ما زالت تنيخ بكلكلها علينا منذ عشرات السنين.. إن الخطابات، سواء أكانت بعثية، أو إخوانية، أو ناصرية، أو شيوعية، ليست سوى طبخة بحص، بل أسوأ.. لأنك، عندما تعلّم التلاميذ الصغار أنه في مثل هذا اليوم، من سنة 1946، جلا آخر جندي فرنسي عن تراب سوريا الطاهر، وتحقق لسوريا العظيمة استقلالُها، بفضل كفاح الشعب ووقوفه صفاً واحداً في وجه المستعمر البغيض، فأنت، بذلك، تعطيه لقاحاً مضاداً لأية معرفة حقيقية، فما عاد هذا الإنسان ليجرؤ على أن يسأل نفسه: هل سوريا بالفعل عظيمة؟ أم أنها دولة صغيرة ضعيفة خرجت منها فرنسا سنة 1946، لتواجه محيطاً إقليمياً عامراً بالأطماع، ومجتمعاً دولياً خارجاً لتوه من حرب عالمية طاحنة دمرت بلاده واقتصاده؟ وهل تراب سوريا طاهر؟ أم أنه مجرد تراب؟ وهل خرجت فرنسا من سوريا سنة 1946 نتيجة لنضالات الشعب السوري؟ أم لأسباب داخلية وخارجية معقدة؟

لماذا سُمي خروج فرنسا من سوريا جلاء ولم يسم استقلالاً؟ ولماذا لم يتحد السوريون كلهم حول فكرة استقلال سوريا، وطبيعة الحكم فيها؟

لا يعرف السوري الذي (زمغته) الخطابات عبر السنين، أن فرنسا وبريطانيا كانتا تريدان تحويل دول منطقتنا إلى مستعمرات دائمة، فاعترض الرئيس الأميركي ويلسون، في مؤتمر الصلح 1919، رافضاً فكرة المستعمرات وإلحاق الدول الصغيرة بالدول الكبرى، وأن ويلسون هو الذي أوجد حلاً وسطاً تبنته عصبة الأمم هو "الانتداب ولمدة زمنية محددة".. وأن الأمير فيصل جاء ليقيم في سوريا دولةً كانت قد أهديت لوالده الشريف حسين من بريطانيا التي لا تملك سوريا أصلاً، لقاء مشاركته في الحرب ضد العثمانيين. وأنه أعلن سوريا مملكة يوم 8 من آذار 1920. وبعد أربعة أشهر جاء غورو، وأخرج فيصل من سوريا.. والقصة معروفة.

السؤال الأهم: لماذا سُمي خروج فرنسا من سوريا جلاء ولم يسم استقلالاً؟ ولماذا لم يتحد السوريون كلهم حول فكرة استقلال سوريا، وطبيعة الحكم فيها؟ ولماذا لا يتفقون على تحديد طبيعة علاقات سوريا مع الدول العربية، وغير العربية، وإسرائيل، والموقف من المشروع التوسعي الإيراني الذي يريد مصادرة ما تحقق للشعب السوري من تطور اجتماعي، وإعادتنا إلى الوراء مثلما فعلت الخمينية بإيران نفسها.

عشرات الأسئلة يمكن وضعها. والإجابات عليها ما تزال قليلة. شبه معدومة.