سوريا الاتحادية - قراءة قانونية

2019.09.17 | 00:09 دمشق

+A
حجم الخط
-A

-1-

الثورة تنطلق من دون رؤية، وتتشكل الرؤية أثناء الممارسة، وعند القيام بالثورة، يتفق الثوار على (إسقاط النظام) ويتفقون على تغييره، ويختلفون بعد نجاح الثورة؛ ليكتشفوا أنه لا تجمعهم رؤية واحدة للتغيير، لأن التغيير القادم ليس مكتوباً بقواعد، حتى يلتزم بها الجميع، لكن الجميع يتفق على التغيير، والجميع يختلف على الآلية والتفاصيل.

لذلك من الطبيعي أن يطلق مجموعة من السوريين مبادرة (سوريا الاتحادية) وهم يرون (أن مهمة الثورة إنما هي إنتاج الدولة السورية، وذلك عبر نظام مدني ديمقراطي لجميع مواطنيها عرباً وأكراداً وتركماناً وسرياناً وآشوريين، تحت نظام اللامركزية دولة اتحادية).

لا شك أن من أولى مهام الثورة إقامة حكم مدني قائم على المواطنة، ولكن ربط هذا الحكم ومهمة الثورة من جهة بإقامة دولة اتحادية من جهة أخرى، لا يستقيم مع المفهومات، ولا يستند إلى أسباب الثورة وغاياتها، مما لا شك فيه أن لكل ثورة أسباباً، ولها غايات تتكئ على أسبابها، وأعتقد بأن الغالبية ثارت ضد دكتاتورية السلطة الناتجة عن شكل النظام السياسي، وليس على شكل الدولة.

ما بين شكل الدولة وشكل النظام السياسي

 إن الخلط بين شكل الدولة وشكل النظام السياسي يذكرني بواقعة تاريخية، فقد شكل حسني الزعيم لجنة لوضع دستور جديد، واستطاعت هذه اللجنة أن تنجز مشروعها، لكن هذا الدستور لم يرَ النور، لأن الزعيم كان يرغب بنظام رئاسي، رفضت اللجنة طلبه، وقدمت نظاماً برلمانياً، وسوّغتْ رفضها للنظام الرئاسي، بأنه يقودها إلى نظام فيدرالي، وأدى الأمر إلى فشل إصدار الدستور.

هذه الواقعة تؤكد أن اللجنة الدستورية وهي تشكل نخبة سياسية

السوريون خرجوا بثورتهم لتغيير النظام السياسي، ولم يَدُرْ في تفكير أغلبهم تغيير شكل الدولة، فهم يميزون بفطرتهم الثورية بين مصطلح النظام السياسي وبين شكل الدولة

وقانونية لم تفرق بين شكل الدولة (الاتحادية) وشكل نظام الحكم (الرئاسي).

 هذا الخلط بين شكل نظام الحكم وشكل الدولة يبدو ما يزال موجوداً لدى بعض النخب السورية المعاصرة، لتعلن أن إنتاج نظام مدني ديمقراطي، يتم بتغيير شكل الدولة من دولة بسيطة موحدة إلى فيدرالية اتحادية.

مما لا شك فيه أن السوريين خرجوا بثورتهم لتغيير النظام السياسي، ولم يَدُرْ في تفكير أغلبهم تغيير شكل الدولة، فهم يميزون بفطرتهم الثورية بين مصطلح النظام السياسي وبين شكل الدولة.

وإذا أردنا توضيح المصطلحين نجد أن مصطلح النظام السياسي الذي يراد به نظام الحكم السائد في دولة معينة هو تبع للقواعد الدستورية المعمول بها في الدولة، إذاً هناك ترادف بين تفسير النظم السياسية والقانون الدستوري.

 والأنظمة السياسية تتنوع وفق معيار تطبيقها لمبدأ فصل السلطات إلى ثلاثة أنظمة (برلماني-رئاسي-مجلسي).

 أما الفيدرالية فيرى "ديفيد برد نهايمر"أنها (عملية ديناميكية متحركة بصورة متواصلة وتلقائية، لذلك ليست الفيدرالية على نمط واحد، بحيث لا تستبدل بمرور الزمن وبتغيير الزمان والمكان، ومقتضيات التطور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والتكنولوجي القائمة في البلدان التي نشأت فيها)، ويعرّف الفقيه "K.Wheare" على أنّ الفيدرالية (منهج تقسيم السلطات بين الحكومتين العامة والإقليمية في إطار تنسيقي وآخر مستقل).

إذاً الفيدرالية شكل من أشكال الدول، تنشأ بموجب دستور، نتيجة اتحاد عدة دول أو دولتين، أو تفكك دولة واحدة إلى عدة ولايات، يخضع المواطنون فيها إلى سلطتين غير متعارضتين، سلطة المركز وسلطة الولاية، في المجال الداخلي، وتختص الحكومة المركزية بشكل مطلق في السيادة الخارجية.

إذاً شكل النظام السياسي يختلف عن شكل الدولة، فالأول ينتج عن آليات اختلاف تطبيق مبدأ فصل السلطات، وشكل الدولة ينتج عن تطبيق مبدأ تقاسم السلطات أو عدم تطبيقه، ولا ترابط بينهما، فيمكن أن يوجد دولة اتحادية تأخذ بنظام رئاسي (أميركا) أو برلماني (ألمانيا) أو مجلسي (سويسرا).

 للثورة السورية أسباب عديدة، ومن أسبابها الدستورية، أن دستورهم أنتج نظاماً سياسيّاً مشوهاً، هو نظام يصعب على الدارس تصنيفه، بين الأنظمة السياسية الثلاثة، وسبب التشوه موقع رئيس الجمهورية وتغوله على جميع السلطات، والحاصل على جميع المزايا التي تمنح للموقع من الأنظمة الثلاثة.

هذا النظام السياسي أدى إلى هيمنة الرئيس على البلاد، ولا سيما إذا ما ترافق بوجود سلطة أمنية شكلت ذراع الرئيس التي يقبض بها على كل من يناوئ سياسته.

في حين يرى أصحاب المبادرة أن تمركز السلطات ناتج عن شكل الدولة، فتحول الدولة من بسيطة إلى اتحادية كفيل بتقليص سلطات الرئيس وتفتيت الصلاحيات، وهذا ما لا نتصوره، فتغيير شكل الدولة وإن كان قائماً على مبدأ تقاسم السلطات، إلا أنه لا يسمح بمجرد تطبيقه بنزع سلطات الرئيس، لأنه يستطيع الحفاظ على جميع السلطات الاتحادية في يده، وبالتالي ينتج نظاماً سياسيّاً مشوّهاً يحكم دولة اتحادية.

بين الفيدرالية والديمقراطية

ورد في الرؤية الفكرية في المبادرة (هذه الغاية الخلاصية الوطنية الأخلاقية التاريخية تعني بالضرورة إقامة قطيعة مطلقة مع البنية الحاكمة لأن البنية الجديدة غير ممكنة دون هذه القطيعة، وتحقيقُ هذه الغاية الوطنية والنظر إليها على أنها غاية المجتمع السوري - بكل تكويناته الطبقية والإثنية والدينية والمناطقية - لا يكون إلا بقيام الدولة السورية الاتحادية).

إن الرؤية الفكرية تربط بين خلاص الشعب الذي يجب أن يبني قطيعة مع البنية الحاكمة، وهذه القطيعة لا تكون إلا بقيام الدولة الاتحادية، فهو ربط بين مفهوم الفدرالية كشكل للدولة وبين الحريات والحكم الديمقراطي.

الفدرالية والديمقراطية لا يوجد بينهم تلازم حتمي أو ترابط ميكانيكي، بمعنى متى ما أعلن تطبيق الفيدرالية تتولد ميكانيكياً عنها الديمقراطية، ويتم حفظ الحقوق والحريات بها.

لأن الفدراليات في العالم ليست بالضرورة الأفضل في مجال الحريات

الفيدرالية ليست وصفة جاهزة تعطى لكل الأنظمة بشكل موحد، بل هي متنوعة ومتعددة ومتغيرة زمانياً ومكانياً

والحكم الديمقراطي، كما أن النظم المركزية ليست سلطات دكتاتورية لمجرد أنها غير فيدرالية حتى مع وجود مشكلات خاصة في بلدانها.

فالسويد دولة مركزية النظام وتعد الديمقراطية الأفضل في العالم، وفي المقابل يمكن أن نجد بين الفيدراليات دولاً غير ديمقراطية مثل روسيا وإثيوبيا، إلى جانب دول أخرى لا يمكن القول إنها تمثل تجارب ديمقراطية نموذجية لمجرد أنها فيدرالية مثل نيجيريا والأرجنتين وغيرها.

الفيدرالية ليست وصفة جاهزة تعطى لكل الأنظمة بشكل موحد، بل هي متنوعة ومتعددة ومتغيرة زمانياً ومكانياً.

الفيدرالية ليست كما يظن البعض أنها علاج ميكانيكي للاستبداد وغياب الحقوق والحريات العامة، بمعنى مجرد تطبيقها سوف تتحول الدولة من الاستبداد إلى التعددية والتداول وتعود الحقوق والحريات.

الشعب السوري مما لا شك فيه يعيش أزمة هوية، والسلطة فاقدة للشرعية، وتغيب دولة المواطنة لتحضر دولة الولاء، هذه نتائج طبيعية لعوامل متفاعلة ومتعددة، بعضها تاريخي وآخر سلطوي وثالث ثقافي واجتماعي واقتصادي فالعوامل كثيرة ولا يمكن حصرها أو تعدادها.

لكن البعض أراد أن يختزل كل تلك العوامل بشكل الدولة، وكأن شكل الدولة سينتج وبشكل ميكانيكي حلولاً لجميع القضايا والإشكاليات السابق ذكرها، ولا سيما الداعين إلى الأخذ بفيدرالية للدولة، فهم يرون أنها تساعد في الخروج من أزمة الهوية، وتعمل على إنتاج سلطة شرعية، وتولد دولة المواطنة.

هذا الأمر بداهة هو تبسيط للإشكاليات وحلها، ولا سيما أن شكل الدولة هو منتج دستوري، مثله مثل بقية المصطلحات (الهوية-الشرعية-المواطنة) التي هي منتجات عن العقد الاجتماعي والسياسي بمفهومه الواسع، وغياب الدولة بمفهومها الموضوعي المعاصر نتاج عوامل متعددة كما ذكرنا.