سلطة والبقاءُ أولاً.. ماذا وراء ظهور الجولاني الأخير؟

2021.02.06 | 00:02 دمشق

mn-alltham-aly-alsshwar-swr-aljwlany-qayd-tnzym-hyyt-thryr.jpg
+A
حجم الخط
-A

رغم الجدل المستمرّ حول تصنيف "هيئة تحرير الشام" تنظيمًا إرهابيّا لدى عدّة دول فاعلة في الملفّ السوريّ؛ خاصة الولايات المتحدة، وذلك استنادًا إلى كونها تطوُّرًا مستمرًّا عن جبهة النصرةِ المرتبطة بتنظيم القاعدة، إلا أنه يلاحَظ –بالتوازي مع ذلك- سعي الهيئة للاستمرار في سوريّا دون ذوبان كتلتها الصلبة المرتبطة بالجولاني ذاته وتفكّكها، وذلك من خلال إبداء مرونة عاليةٍ على إضفاء تغيّرات واضحةٍ في الخطاب وشكل التنظيم مع بقاء تأثير "الهيئة" كتلة متماسكةً ومرنةً في الآن نفسِه.

لم تمضِ سنةٌ بعدُ على تصريح جيمس جيفري -مبعوث الولايات المتحدة السابق للشأن السوري- الأكثر بروزًا نحو هيئة تحرير الشام، حيث قال في شهر فبراير/ شباط الماضي إن هيئة تحرير الشام تسمّي نفسها بأنها تنظيم محلي يركز جهوده على محاربة النظام السوري وأن أفرادها ليسوا إرهابيين كما أنهم لا يمتلكون أفكارًا للتحوّل إلى تهديد دوليّ، وهو ما أكده جيفري نفسه حين قال: " لم نشهد لهم أي تهديدات على المستوى الدولي منذ زمن".

شهر فبراير/ شباط 2020 لم يكد يغلق أبوابه إلا مع ظهور تحليل مطوّلٍ لمجموعة الأزمات الدولية تضمّن مقابلة لقائد الهيئة العام "أبو محمد الجولاني" أشار فيها إلى جملة من الوعود والرسائل كان أهمها التعهّد بعدم استخدام سوريا منطلَقًا لعمليات خارجية -رغم ارتباطه السابق بتنظيم القاعدة- سواء من قبل الهيئة أو أي فصيل آخر، والتركيز فقط على قتال النظام السوري وحلفائه، فالهيئة "مشروع مقاومة ضد النظام السوري والاحتلال الروسي والإيراني" ولا تطمح لأن تكون تنظيمًا عابرًا للحدود.

تطوّر ظهور الجولاني في حالات وأنماط عديدة من الملابس جدير بأن يقرَأ ضمن دراسة بحثيّة رصينة تحلل عادات الزعماء في التنظيمات الإسلامية المقاتلة

كان جليًّا في تلك المقابلة تأكيدُ مساعي الجولاني على تطوير خطاب الهيئة السياسي ببعدها المحلّي وهويّتها السورية باعتبارها فصيلاً يستند إلى الفقه الإسلاميّ المعتمَد في سوريّا كسائر "الفصائل المعتدلة" الأخرى، وأن مرحلة "جبهة النصرة" كانت امتدادًا لظروف داخليّة وخارجيّة معيّنة أَمْلَت عليه مبايعة القاعدة والارتباط الاسميّ بها.

أضلاع المثلّث

تساؤلات كبيرة وضجة واسعة، هذا ما فعلته صورة نشرها مارتن سميث الصحفي الأميركي ذي الأفلام الوثائقية الاستقصائية، ولعلّ فضول سميث الآن يتصاعد، فلماذا يهتمّ الناس بلباس شخص يعيش بشكل طبيعي بينهم، أو هكذا سيتراءى له! إلا أن الجولاني –كشأن زعماء العرب والمعارضة السورية أيضًا- لا يفصحون عن شيء، ولا ينبسون ببنت شفة إلا بعد تسريب الآخر لمضامين اللقاءات والأوامر والخطط.

على أي حالٍ، فتطوّر ظهور الجولاني في حالات وأنماط عديدة من الملابس جدير بأن يقرَأ ضمن دراسة بحثيّة رصينة تحلل عادات الزعماء في التنظيمات الإسلامية المقاتلة –على الأقل- من لباس ومأكل ومشرب وحتى أساليب رياضية، ولذا فإنه ما من داعٍ للتعرّض له ههنا، إذ إن الجدير بالذكر هو ما خلف اللقاء الذي لم يعلَن عن شيءٍ من تفاصيله –وإن كان ما سيعلنه إعلاميّو الهيئة وأنصارها مخمَّنٌ مسبقًا- إلا أن اللافت في تغريدة مارتن اختزالها بالبيانات والمعلومات.

أحاديث مطوّلة إذن فالمعلومة لا تقدّر بثمن، وأن تكون قائدًا متجذّرًا يعني أن تعرِف أكثر وتوجّه الكلام حيث تريد أكثر، وربما كانَ للزعيم في تلك الجلسات -التي استمرت ثلاث أيام بلياليها –بحسب مصادرَ مقرّبة من الهيئة- مزاجٌ عالٍ دفعه للإسهاب في الحديث عن هجمات أيلول وتاريخ تنظيم الدولة وخفاياها وبكل تأكيد تعريجاتٌ مهمّةٌ عن الثورة السورية، فهل كان من بينها –يا ترى- تفاصيل وافية عن زوايا وأبعاد وكواليس تفكيك أكثر من 20 فصيلاً ثوريًّا اتهموا بالردة أو إحدى مرادفاتها؟

قبل أن يأتي زمن –لا نعلم توقيته- لظهور ذلك كله، فإن علينا الانتباه إلى مثلث الاستراتيجية التي تتبعها قيادة الهيئة، بدءًا من تعزيز السلطة الإدارية بيدها عبر حكومة الإنقاذ الطيّعة لتوجيهاتها، إلى جانب بناء صورةٍ برّاقة للجولاني عند الحاضنة الشعبية وصولاً لضبط مفاصل القوة الخشنة بشقيها العسكري والأمني وجعلها أكثر هرميّة ومركزيّة، بحيث إن انتقلت الهيئة من شكلها الحالي إلى أي شكل آخر فإنها ستنتقل "كُلًّا" دون القدرة على تفكيكها أو تذويبها، فهي المتغلغلة إداريًّا في كل مفصلٍ حيويٍّ وغير حيويّ في إدلب، وهي الجسم الأقوى عُدّةً والأكثر تمرّسًا في العمل الأمني والطامحة ذات وقتٍ لأن تقود المجلس العسكريّ المفترَض في إدلب، وقائدها صاحب الكاريزما التي لا تخفى على عدوّه قبل القريب منه يتجوّل في المخيمات والأسواق وبين وجوه العشائر والقبائل..

ما الهدف؟

لنعد إلى مقابلة مجموعة الأزمات الدولية، التي تقترب من دورتها السنوية الأولى، كان التحليل فيها مبنيًّا على الكلام المباشر مع الجولاني، وذاك يومٌ مضى إلا أن أثره لم ينقضِ، فها هي بعد يوم من نشر صورة مارتن تصدر تقريرها المهم حول ضرورة التعامل مع هيئة تحرير الشام فالفراغ السياسي يضرب أطنابَه، لكن واشنطن تستطيع -بحسب توصيات المجموعة- أن تغير من سياستها وتتبع سياسة أكثر إبداعًا بالتعاون مع الهيئة التي تظهر استعدادًا للتخلّي عن الفكر المؤدلج واستهداف المواطنين بعمليات إرهابية، فهي الجماعة الأقوى في إدلب وهي التي لجمت كباح التنظيمات الإسلامية الأخرى فيها بحكم خبرتها الطويلة في التعامل معهم..

قد تغير الولايات المتحدة موقفها من أشخاص، إلا أن تغيير موقفها من تنظيم الجولاني كاملاً يبدو أمرًا بعيد المنال، إلا أن ذلك لا يمنع من البَدء بتسويق صورة جديدة للجولاني

قد لا يكون عند الجولاني جدول زمنيٌّ لتحقيق أهدافه التي من أهمّها الخروج من قائمة الإرهاب الأميركية، وهذا يتطلّب بناء رأي عامّ جديد يصبّ في السياق الذي تنادي به مجموعة الأزمات، وهنا يظهر دور مارتن ذي الخبرة العريضة في صناعة الأفلام الاستقصائية ليكون رافعةً إضافية في مشروع الجولانيّ بتغيير الرؤية السلبية التي تلصَق به، فهل تنجحُ مساعيه؟

قد تغير الولايات المتحدة موقفها من أشخاص، إلا أن تغيير موقفها من تنظيم الجولاني كاملاً يبدو أمرًا بعيد المنال، إلا أن ذلك لا يمنع من البَدء بتسويق صورة جديدة للجولاني، إذ من المحتمل أن تفتح الإدارة الجديدة في واشنطن قنوات تواصل أكثر مباشرة مع الهيئة، وهذا يتطلب منه العمل على تغيير هيكل الهيئة مع بقاء تماسكها قبل دمجها لاحقًا في جسم أشمل في المنطقة، والوصول لهذا ليس محكومًا بالكاريزمية أو دعم الحاضنة الشعبية فحسب وإنما بقدر التغلغل الأمنيّ والعسكريّ والإداريّ في المجتمع والمؤسّسات في الشمال، والهيئة –صرّحت أم لم تصرّح- كانت من أهم الضامنين لتطبيق اتفاق سوتشي الأول على الأرض، وتحرص على تهيئة الأجواء لتطبيق اتفاق موسكو الروسي التركي الأخير، واستفادت من هجمات صواريخ النينجا الأميركية على قيادات حراس الدين ففكّكت هيكله الإداريّ وأجزاء مهمّة من مفاصله الأمنيّة، وها هي اليوم بدأت فتح الأبواب على مصاريعها لتركب سفينة التفاوض على الحلّ السياسي، فهل أحد كالفاتح أبي محمد يُتقِن كلّ ذاك..