سجن صيدنايا.. البكاء بالكردي

2020.12.13 | 23:04 دمشق

prison-syria.jpg
+A
حجم الخط
-A

في العديد من رسائله من سجنه في جزيرة "روبن" بجنوب أفريقيا، سيكرر نيلسون مانديلا، السجين السياسي الأشهر في العالم، وصفه لآخر مرة شاهد أمه فيها، وكيف شعر بأنها لن تعود لزياراته مرة أخرى "في تلك اللحظة التي عبرتْ فيها سور السجن إلى الزورق، عرفت بأن هذه كانت آخر مرة أراها فيها"، وسيتحول هذا المشهد إلى واحدة من أكثر الذكريات مرارة لديه. أمه التي توفيت عام 1968 إلى جانب فقدانه ابنه الأكبر "تيمبي"، الذي مات بحادث سيارة عام 1969 بعمر أربعة وعشرين عاماً شكّلا عبئاً ثقيلاً على روح السجين "ماديبا" كما يسمّى في بلده.

غالباً ما يتخوف السجناء خلال إقامتهم الطويلة في السجن من فقدان الأحبّة في الخارج، وعلى نحو خاص الجزع من فقدان الأب والأم، التي تتكرر الحكايات بشأن وفاتهم أثناء وجود أبنائهم في السجون على نحوٍ متواتر، وسيكون أقصى حلم للسجين يلقاهما على قيد الحياة عندما يخرج.

كثيراً ما كررتُ، ومثلي فعل العديد من السوريين الذين قضوا فترات طويلة في السجون، بأن أدقّ توصيف، وربما أفضل تعريف ممكن لنظام حافظ الأسد يجب أن يكون بدلالة سجونه ومعتقلاته، وما يحدث فيها. فيما بعد سأكتشف أن مانديلا الذي قضى سبعة وعشرين عاماً في السجن، قد سبقنا لهذا الاستنتاج حين ذكر في كتاب مذكّراته "المسيرة الطويلة من أجل الحرية" بأن "لا أحد يعرف حقًا أمة حتى يكون داخل أحد سجونها. يجب ألا يتم الحكم على الأمة من خلال معاملتها لأعلى مواطنيها، لكن على معاملتها لأقل مواطنيها".

في سجن صيدنايا وبعد السماح بالزيارات التي منعت لأكثر من ثلاث سنوات عقب الاعتقال، كانت زيارات الأصدقاء الكرد من أصعب الزيارات، ليس فقط بسبب اللغة التي أكتب عنها هنا، ولكن أيضاً لجهة المسافة بين القامشلي أو عامودا وبين صيدنايا، فمدة لقاء الزيارة الشهرية التي لن تستغرق أكثر من عشرين دقيقة، كانت تحتاج من عائلاتهم ليومين من السفر، بينهما مبيت ليلة في دمشق. غالباً ما كان يُستعاض بالرسائل عن الحديث السريع خلال الزيارة، الذي لن يروي فضول السجين لأخبار الخارج، ولا حتى رغبة الأهل بالاطلاع أكثر عن حال السجين وظروف سجنه. الرسائل المهربة إلى الأهل، وكذا تلقي رسائلهم ستتيح مجالاً أكبر للاسترسال وحتى للبوح العاطفي. دهام عبد القادر (اعتُقل طالباً في الشهادة الثانوية من بلدته عامودا، ليحصل بعد السجن على شهادة ماجيستير في علم الاجتماع) كان الأضعف بين أصدقائنا السجناء الكرد باللغة العربية في الجناح، والحديث باللغة الكردية التي يجيدها هو وأهله كان ممنوعاً في الزيارة. خلال إحدى زياراته سيمرر لأهله لوحة من الخشب كهدية، ويطلب من أهله بلغة كردية سريعة كسرها لأن فيها رسالة. الشرطي الذي يراقب الزيارة، ورغم عدم معرفته باللغة الكردية، إلا أنه وبسبب اختلاط المفردات العربية والكردية، سيفهم طلب دهام ويصادر اللوحة ويخرج الرسالة منها ويسلمها للإدارة، ليقضي دهام بعدها شهراً كاملاً في الزنزانة مع التعذيب اليومي. يومها عاد دهام للجناح منهكاً بعد تلك العقوبة. سيتوفى دهام في ألمانيا عام 2010 حيث كان يعالج من السرطان، ويدفن في مدينته عامودا ليستمع من مرقده الأخير لوشوشات الأهل بلغتهم الكردية.

اعتمد الإسلاميون على السجناء المزارين ليوصلوا رسائلهم ويتلقوا الردود عليها، من أهلٍ لم يكونوا يعرفون عن مكان وجود ومصير أبنائهم أية معلومة

عموماً يحتاج السجين بشدّة إلى الدعم النفسي والمعنوي الذي توفّره زيارة الأهل، ورغم أن العشرين دقيقة لم تكن تحقق جيداً هذه الغاية إلا أنها كانت تؤمّن وضعاً نفسياً أفضل للسجين. الأمر الذي لم يحصل عليه السجناء الإسلاميون الذين بقوا دون زيارات خلال كامل فترة سجنهم التي امتدت لأعوام طويلة، ولذا اعتمد الإسلاميون على السجناء المزارين ليوصلوا رسائلهم ويتلقوا الردود عليها، من أهلٍ لم يكونوا يعرفون عن مكان وجود ومصير أبنائهم أية معلومة. في واحدة من رسائله إلى زوجته "ويني" سيكتب مانديلا: "لولا زياراتك ورسائلك وحبك يا ويني، لتمزّقتُ منذ سنوات".

البكاء، وبخاصة بكاء الأمهات، يكاد يكون لغة عالمية كالموسيقا. في الزيارات بكت جميع الأمهات بلغة واحدة. من العجب أن أمهات على شبك سجن صيدنايا كنَّ يبكين باللغة الكردية.

قبل أن يدخل البكاء إلى كل بيت سوري بعد عام 2011، كان يمكن اعتبار شبك الزيارة في سجن صيدنايا شاهداً على أغزر دموع ذرفتها الأمهات السوريّات، لدرجة أنّ السجين الذي فقد أمه قبل السجن كان سيحسد نفسه أنه بلا أم. في أول زيارة لهما نهايات عام 1990، سيعود كمال حمو (طالب رياضيات، جامعة حلب) وابن أخته عبد السلام عثمان (معلم وكيل في إحدى مدارس القامشلي) المعتقلان بتهمة الانتماء إلى حزب العمل الشيوعي، إلى الجناح بملامح لا تشي بفرحة الزيارة الأولى. سيسأل الأصدقاء المتجمعون كعادتهم، لمعرفة ما جرى في الزيارة، وكيف هي أخبار الأهل، وسيجيب كمال: "ما حكينا شي، كنّا عم نبكي". كمال وعبد السلام كرديان من القامشلي، ووالدة كمال وأخته والدة عبد السلام لا تتحدثان العربية. سيمنع الشرطي الجاثم بين شبكي الزيارة أي حديث باللغة الكردية، وستقضي السيدتان المصدومتان الزيارة وهما صامتتان تحدقان بابنيهما وتبكيان. مع شهقات بكاء أمه، سيشير "شيخموس" شقيق كمال إليها، ويخاطب الشرطي الذي لن يجيب: "إنها تبكي بالكردي. كيف نجعلها تبكي بالعربي؟".

البكاء، وبخاصة بكاء الأمهات، يكاد يكون لغة عالمية كالموسيقا. في الزيارات بكت جميع الأمهات بلغة واحدة. من العجب أن أمهات على شبك سجن صيدنايا كنَّ يبكين باللغة الكردية.

كلمات مفتاحية