سامي حداد وموفق الخاني وزينة يازجي وآخرون

2021.02.06 | 00:00 دمشق

1202119234518324.jpg
+A
حجم الخط
-A

 لم نرَ سامي حداد إلا بشعر أبيض وقلم أسود! فوجئت إذ علمت أنَّ سامي حداد شاعر، وكان ملاحًا بارعًا في لجج الحوار، ولم أقرأ له شعرًا، وهذا نقص في مصادر الخبر، ولو كنت أعلم لاستكبرت شأنه، صيت شعر خير من صيت النثر، وكان معروفًا لدى المصريين بوصف طريف، مستعار من أحوال التصوير وشؤونه هو: "النكاتيف".

 علمنا بخبر هذا اللقب الطريف في لقاء مع الفنان محمد صبحي في برنامج "بلا حدود"، بسبب بياض شعره،

 والأمر لا يثير الغبار لأنَّ الولادة في هذه البلاد تشيّب الغربان.

ولم أكن أجد بياض شعره شيبًا، ولم نعرف هل هو بياض ميراث وعرق، أم هو رعبٌ ناله، أم هو شيب مبكر. ويرْوى أَن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أول من شَاب وحلاّه الله بالشيب ليميزه عَن إِسْحَاق، إِذْ كَانَ من الشّبَه بِهِ مالا يكَاد يُمَيّز بَينهمَا، فَلَمَّا وخطه الشيب قَالَ يَا رب مَا هَذَا! قَالَ: هُوَ الْوَقار قَالَ: يَا رب زدنى وقارا.

 يقول الراوي: إنه بعد إنشاء الجزيرة أنشأ إخوة يوسف "العربية" للنكاية بالجزيرة، وسرقة المستهلك، وصار الضحية مستهلكًا للأخبار، وقد يكون مستعلفًا لها، وقد تخيّلت أنها قناة لها سنان، ولكل قناة سنان، كما قال المتنبي:

كُلَّما أَنبَتَ الزَمانُ قَناةً   رَكَّبَ المَرءُ في القَناةِ سِنانا

وكانت العربية منذ بداية طفوها فوق الماء توشك أن تكون قناة للكوميديا مع أنها قناة ذرفت كثيرًا من الدموع مثل دموع الزجاج لتلك الطفلة العراقية، والتي تاجر بها مدير القناة أسبوعًا، وتاجر بدموع فتح الله غولن أكثر، حتى وقر لدي أنها قناة هندية، فغرضها سرقة المشاهد، وكانت العربية ترفع شعار "أن تعرف أكثر"، والحقيقي هو أن تذرف أكثر، أو أن تهرف أكثر.

كانت البرامج تظهر في الفضائيات المصرية وتعمّر سنة، ثم ما تلبث أن تموت، أما برامج الجزيرة، فكانت معمّرة من عمر السلاحف

نعود إلى المذيع الوقور المرحوم سامي حداد الذي كان يقود سفينة البرنامج وهو يطعن بقلم رصاص، و"قلم رصاص" اسم برنامج مصري لحمدي قنديل، وكان اسمًا موفقًا، لجمعه بين الحبر والرصاص، وكانت البرامج تظهر في الفضائيات المصرية وتعمّر سنة، ثم ما تلبث أن تموت، أما برامج الجزيرة، فكانت معمّرة من عمر السلاحف، وما يزال برنامج فيصل القاسم حيّا، أو هو في الرمق الأخير، بعد ظهور منصات اليوتيوب الحرة من كل قيد تقيّد بها الفضائيات أنفسها.

وعلمنا أيضًا أنه كان بينه وبين الشاعرة فدوى طوقان رسائل، قد تكون رسائل حب، ما جعل لقصة موته حكاية مثيرة. والناس تحبُّ القصص، وليس أجمل من قصص الحب. وأخلد قصص الحب هي الخاسرة.

وكان حداد يسأل ضيوفه وهم عادة ثلاثة، كأنه عنترة يقلب قلمه الكعوب، ويقيسه، ويسدد ويقارب كأنه بنّاء أو معمار يزن بميزان زئبق، وإذا نظرنا إلى الصورة قبل التحميض، أي الصورة الحلوة، سكّر زيادة، لوجدنا زميله فيصل القاسم عازفًا على الأوكورديون، أما أحمد منصور، فكان نسخة من المحقق كولومبو، وحريصًا على  نطق الحروف اللثوية نطقًا سليمًا، ونزع الاعترافات من الضيوف المتّهمين، ولم تكن لغة أحمد منصور سليمة فهي تعاني من اللحن، وهذا عيب في الجيل الثاني من المذيعين المصريين، وضيوفه أصحاب مناصب، ليس مثل ضيوف الشرطي الفظيع المساعد جميل، السيد علاء الدين الأيوبي. وزميلهم جميل عازار يؤذن نفير الأخبار وهو متكئ على كتف المشاهد. وكنت أشفق عليه من أن ينسى سؤاله، فقد كان كبر وأسنَّ، وكان يتعثر وهو يسأل، بسبب العمر ووعثاء السفر، كما كنت أشفق على جمال ريان عندما يحاور ضيفه، ولا أزال، وكلاهما يصلحان للنفير، لكنهما لا يصلحان للمصاولة والمجاولة، ولم أجد أبرع من زميلهم محمود مراد في ردِّ العجز على الصدر، وتكسير الرماح، في حواره مع ضيوفه، ميزانه هو ميزان البحر الكامل، وهو: متفاعلن متفاعلن متفاعلن، أما زميلتهم غادة عويس، فقد جعلت ضيفًا لبنانيًا من قومها يحتجّ على الهواء بعد أن جعلت قفاه يقمّر عيش.

وكانت الجزيرة شأنا كبيرًا، إذا ذكر اسم رئيس عربي في برنامج، اضطربت أحوال الدولة العربية، واستنفرت أجهزة المخابرات على الحدود تنتظر مواطنها العائد من البرنامج إلى الوطن، حتى تنكّل به لأنه لم يدافع عن رئيس دولته، كما وقع للشيخ الكوكي مثلًا، حتى إنَّ القذافي أغرته القناة، فاستضاف نفسه على برنامج الاتجاه المعاكس، ولأنَّ دوام الحال من المحال، ولا يدوم إلا الدائم، فقد انهارت الفضائيات أو أوشكت على الغروب بعد ظهور وسائل التواصل الاجتماعي.

نعود إلى المذيع سامي حداد، الذي لا بد أنه كان لديه ذكريات كثيرة يرويها عن لقاءاته مع الرؤساء والشخصيات العامة، لكن ما أجده مستحقًا الرواية قد لا يجده غيري، فالعيون تختلف في قدرة النظر ورؤية الأوان، وما أراه أبيض يراه غيري أسود.

 وأذكر أنَّ سامي حداد استسكت ضيفًا له ذكر اسم طبخة مغربية، لأن اسم الوجبة يذكّر بورقة التوت الأخيرة، ولم يعد الأمر كذلك، فقد نالت تلك الطبخة عناية اليونسكو، وصارت وجبة قومية تتباهى بها المغرب، وعنوانًا في وكالات الأخبار، وشريط الأخبار، وحصل تنازع على اختراعها بعد أن اخترع أجدادنا الإسطرلاب والرجل الآلي أو قلم الحبر والخوارزميات، وقد تقع حرب أهلية على الولاية على الطبخة، وليست الطبخة هي التي احترقت، فالدول العربية تحترق.

أمس رحل موفق الخاني رحمه الله، فعلمنا أن هذا الرائد كان رائدًا في الطيران ومؤسسًا، وله أياد بيضاء كثيرة، في الثقافة والعلم وريادة الطيران السوري، وكان كثيرون ينتظرون برنامجه يوم الخميس، كأنه برنامج هلا بالخميس السوري في التلفزيون السوري القاحل، وإن جميع الأوسمة التي نالها كانت من عهد "الإقطاع والرجعية" وليس من عهد الحركة التصحيحية، وحسبه أنه نجا من مصير محمد الفارس.

 قال العارف بالله عارف الحجاوي: المذيع إذا غاب غابت معه نجوميته. وأظنُّ ميزانه صحيحا

عشنا عصر المذيع الوحش والمذيعة الحسناء، ورأيت في لقاء أجرته العربية مع السيسي بعد فوزه بتلك النسبة الخارقة في الانتخابات في صناديق ذخائر السلاح، أنّه ما يزال يحتاج إلى لمسة الحسناء، فكرمته العربية بلقاء مع الحسناء زينة يازجي، التي أشكُّ أنها وهي المذيعة المثقفة قد استصغرت شأنه، وعلمت أنه يستمد منها الكرامة و"الشرعية" البصرية والجمالية، وهو يتعثر، ويتلعثم مثل تلميذ أمام معلمته في المدرسة. وأذكر أنها سألته عن شأن من شؤون الحكم فقال متمسكًا بقشة عرضت في لجة السؤال:

هذا نبحثه في الغرف المغلقة!

وانتظرتُ من الحسناء ملاحةً في الفكر مثل ملاحتها في الحسن، فخيّبت ظني، ورحلتْ إلى سؤال آخر رأفة بالوحش من السقوط من فوق الشجرة. فاستوحشتُ منها أشد الاستيحاش، وقلت لقد نفض عليها بعضًا من الوحشية كما نفضت عليه بعض حُسنها، والله أعلم.

 قال العارف بالله عارف الحجاوي: المذيع إذا غاب غابت معه نجوميته. وأظنُّ ميزانه صحيحا.