زمن عمرو سالم الأسدي

2021.09.23 | 06:08 دمشق

wzart-alalam-alswryt-660x330.jpg
+A
حجم الخط
-A

في وقت ما من عام 2004، ودون سابق إنذار أصدرت مؤسسة الاتصالات السورية قراراً رفعت بموجبه بشكل فاحش قيمة خدمة (ريل أي بي real ip)، التي تتيح لمشتركي الإنترنت القيام عبرها باتصالات الصوت والصورة، فبدلاً من دفع 100 ليرة، على ما أذكر، بات عليهم أن يدفعوا 2000!

هنا، ربما سيستغرب القارئ، الذي لا يعرف تاريخ الإنترنت في سوريا، من أن هذه الخدمة كانت مأجورة، وبالتأكيد سيصدم وهو يقرأ الرقم الذي يتوجب دفعه من أجلها، لمؤسسة تحتكرها، دون وجود بديل عنها أو منافس!

لم يمر الأمر بصمت، بل قام الصديق سامر رضوان الذي كان آنذاك مذيعاً في إذاعة (صوت الشعب) الرسمية، باستضافة عدد من المختصين والمهتمين بالقضية، في حلقة من برنامجه الصباحي، بعد أن طلب حضور ممثل عن المؤسسة التي لم تجب، وأهملت دعوته!

بُعيد وقت قصير من بدء حديثنا عن القضية، قامت دنيا الإذاعة ولم تقعد، إذ توجهت مديرة (صوت الشعب) فيوليت بشور، ومعها مدير الإذاعة محمود الجمعات، إلى الاستوديو طالبين من المخرج إيقاف البث، ومن سامر إنهاء الحلقة!

لكنه رفض ذلك، وأصر على إبقاء الضيوف. وبعد تبينه أن وزير الاتصالات قد اتصل بوزير الإعلام مهدي دخل الله، طالباً منه إيقاف الحلقة، عرض سامر على المديرين المرتعدين استضافة مدير المؤسسة الدكتور عماد صابوني عبر اتصال هاتفي، فدخل في الحوار فعلاً، لكن ليس بصفته مديراً لمؤسسة عامة تقدم خدمة للسوريين، بل بصفة أخرى تقمص فيها دور المحقق الأمني المخابراتي، حيث أراد أن يحاسب مذيعاً صحفياً هو الزميل سامر، ومخرجاً تلفزيونياً صحفياً هو كاتب هذه السطور، وخبيراً تقنياً هو الأيهم صالح، وخبيراً اقتصادياً هو أيهم أسد، على "وقاحتهم" وحديثهم المنتقد لقرار المؤسسة.

فنلت حظي من التخوين والتشكيك حتى بملكاتي العقلية على يده، وحاول أن يلقي الأسافين بيني وبين إدارة التلفزيون، عبر اتهامي بأني أقوم بتحضير الجزء الخاص بي من برنامج (خبرني يا طير)، عبر اشتراكي المنزلي في شبكة الإنترنت، وليس عبر شبكة الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون!

عماد صابوني الذي أقيل قبل فترة من منصبه كرئيس لهيئة التخطيط والتعاون الدولي، بعد أن استوزر لفترة، كان جوهر ردوده يقوم على تحميل المستهلكين المسؤولية عن مشكلة ضعف الإنترنت السوري، والتأكيد بأن تكاليف حل المشكلة، يجب أن يتم دفعها من جيوب المشتركين، وليس عبر رفع مستوى العمل من قبل مقدم الخدمة، وإتاحة الخدمات المجانية، لجذب عدد أكبر من الزبائن، ما يوفر السيولة المالية المطلوبة للقيام بالتحسينات!

وفي السياق كان على الرجل الذي صدم بوجود صحفيين ينتقدون قرار مؤسسته، أن يشكك ويخوّن هؤلاء، إذ كيف يجرؤون على النيل منها، ومن على منبر عام مملوك للدولة، فبالنسبة لصابوني هذه الإذاعة هي "تبعه" هو ووزيره، ويجب أن يعاقب أصحاب هذه الفعلة على جريمتهم!

فعلياً، مرت القصة بقرار إيقاف سامر عن عمله لعدة أيام، ثم جرى حل الأمر في مكتب وزير الإعلام، فعاد إلى ميكرفونه الأثير.

تذكرت هذه الواقعة وبكل تفاصيلها التي يمكن الاطلاع عليه في موقع الأيهم صالح، وأنا أتابع تصريحات عمرو سالم ذاته، الذي استوزره الأسد مرة أخرى، ولكن على رأس وزارة التموين التي صار اسمها -ويا للمفارقة (وزارة للتجارة الداخلية وحماية المستهلك)، مع عدة خطوط تحت عبارة "حماية المستهلك"!

فعلى هامش مواجهة وزارته أمام السوريين في مناطق سيطرة النظام، مع توفر أو اختفاء مادة السكر من الأسواق، وبعد انتقاده لأسلوب عمل سلفه طلال برازي، وبعد تحميله لمسؤولية التحكم بالسوق لبعض التجار دون البعض الآخر، وبعد تقديم أحد أمراء الحرب هو سامر فوز لكمية السكر التي ستطرحها وزارته في الأسواق، يكتب الوزير الذي يستخدم شبكات التواصل الاجتماعي من أجل خدمة وزارته، قائلاً: "أنا أكره الوعود وأحترم المواطن وأموت قبل أن أكذب عليه"!

كثيرة هي التصريحات التي يسمعها المرء في مؤسسات النظام ووزاراته، التي تقوم على المنطق ذاته، حيث يتم تحميل ضحايا السياسيات الحكومية الفاشلة المسؤولية عنها، والمطالبة بمحاسبتهم،

وتبعاً لسياق كامل من التصريحات، التي تماحك فئات اقتصادية سورية، تعمل كلها تحت سقف الوطن، تتكشف معارك الرجل، عن المنطق ذاته الذي قاد به مرحلة وزارة الاتصالات، حيث يُحمل الآخرون الذين يتغيرون بحسب المرحلة، المسؤولية عن الفشل أو النجاح، بينما يحصن صاحب القرار بموقعه، وبالإرادة التي جلبته إليه. وضمن هذا السياق لن تكون تحياته وتبجيله للأسد مستغرباً، فهو منزه عن الخطأ، وهو صاحب الفضل، كما أن الجيش هو الحامي لسوريا، ولا بأس بأن يلحق فلاديمير بوتين بعض المدائح على الهامش!

النظرة الاعتبارية للشخصيات وللرموز، واحدة من أساليب الهروب من مواجهتها، أو مناقشة قراراتها، وطالما أن التفكير بالنظام الذي يتحكم بكل شيء، يعني في لحظة ما الاقتراب من كينونته وبنيته، ومراكز القوى فيه، والأجهزة المتحكمة بمساراته، فإن الهروب إلى الأمام هو الأسلوب الأنجع للتعايش معه، والاستفادة من مقدراته، وهذا لا يمكن أن يحدث دون إحالة الأخطاء أو الكوارث، أو عوامل الفشل، إلى الآخرين، وهم هنا بحسب الوزير النشيط؛ المستهلكون، وأيضاً صغار التجار وبعض كبارهم، ممن يغضب عليهم النظام!

كثيرة هي التصريحات التي يسمعها المرء في مؤسسات النظام ووزاراته، التي تقوم على المنطق ذاته، حيث يتم تحميل ضحايا السياسيات الحكومية الفاشلة المسؤولية عنها، والمطالبة بمحاسبتهم، أو على الأقل اتخاذ القرارات دون الالتفات إلى تأثيرها عليهم، فالمواطن في النتيجة "سيدبر حاله"، والمهم بالنسبة إلى هؤلاء ألا يتم الاقتراب من النظام ورموزه، لا بل الاصطفاف خلفهم، والإيحاء للآخرين بالانتماء إلى "عضام الرقبة"، حيث يُضبط إيقاع التنافس! وبدلاً من مناقشة السياسات في جوهرها، تتحول سياسة الوزارة إلى قرار مرتبط بالوزير نفسه! فيطرح عمرو سالم القضايا التي تمس الشرائح العريضة من الجمهور على أنها مسألة شخصية، ترتبط بالشرف وبالأخلاق، وبالصفات التي يسوقها الشخص عن نفسه ضمن المنطق الشعبوي، فيذكر الناس بأنه صادق! وأنه يكره الوعود، ويمننهم بأنه يحترم المواطن!

ومن أجل إشباع نهم جمهوره للجرعات الوطنية الشخصية، يكتب على صفحته قصة  لا نحتاج للتعليق عليها، يتحدث فيها أنه عندما كان في الصفّ الحادي عشر، كان يمشي من بيته إلى ثانوية ابن خلدون، وقرب السفارة السعوديّة (يجب التدقيق في معاني المكان)، وجد سائقاً يمسح سيّارة مرسيدس سوداء بعلم سوريّ قديم ، فاستشاط غضباً، ورفع صوته في وجهه لأنه يستخدم علم البلاد، وإذ برئيس السائق يستعدّ لركوب السّيّارة وقد كان ضابطاً برتبة عميد، أخذته الحميّة، وصرخ في وجه: من أنت لترفع صوتك في وجه عسكريّ؟

 ويكمل عمرو سالم: "واقترب منّي وشعرت بأنّه يهمّ بضربي ...انتشلت العلم من يد السائق ورفعته. وقلت للعميد: بصوت حازمٍ: أنا ابن ضابطٍ شهيد من شهداء الجيش العربي السوري الذين استشهدوا تحت راية هذا العلم لكي نحيى جميعاً وليس ليمسح هذا الجاهل به سيّارة سيادتك ...ألم تقسموا بالله العظيم أن تحموا هذا العلم؟ وإذ بالعميد يخبط قدمه فيهزّ الأرض تحته ويأخذ تحيّةً عسكريًة ...ثم يتجه نحوي ويعانقني ويقول: شكراً لك يا بنيّ على هذا الدرس"!