زلزال مارين لوبان في العالم الحر..

2022.04.25 | 05:25 دمشق

ed534819-bb82-4ebe-91b0-3d219b2aa2a8.jpg
+A
حجم الخط
-A

لا تبدو أصوات المعارك الدائرة في قلب القارة الأوروبية منفصلة، أو حتى بعيدة عن المعركة الحاسمة المنتظرة في الانتخابات الفرنسية، فمرشحة اليمين المتطرف مارين لوبان التي تبوأت المركز الثاني خلف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، تُصر على أن تكون جزءاً من هذه المعركة، التي تهدف في عمق أهدافها البوتينية إلى تغيير شكل وهيئة أوروبا والاتحاد الأوروبي، كقوة عالمية ولاعب أساسي في المشهد السياسي العالمي، بل والحقوقي والإنساني..

فبكل تأكيد لم تغب الانتخابات الرئاسية الفرنسية عن ذهن الرئيس الروسي الذي أعلن الحرب على العالم الحر، في 24 من شباط من هذه السنة، بل كان متيقناً ودارساً جيداً للمشهد السياسي الأوروبي وتعقيداته وتفاصيله، وبشكل أساسي في كل من ألمانيا وفرنسا، وبولندا، فريق بوتين السياسي كان وما يزال يدعم اليمين المتطرف في عموم أوروبا، بل وفي العالم كله، مالياً وسياسياً وإعلامياً وحتى عبر التدخل المباشر وغير المباشر في الانتخابات أو في تثبيت الحكام فوق شعوبهم.

تبدو فرنسا في أعين القيصر الروسي إمبريالي الحاضر، شيوعي الماضي، هدية كبرى سعى لأجلها منذ سنوات وها هو يتحضر لاقتناصها على طبق اليمين المتطرف الفرنسي

بوتين هذا يعرف جيداً قيمة فرنسا في العالم، ويدرك بحصافته الجيوسياسية، أهمية كسب سياسة فرنسا إلى جانبه ولو لخمس سنوات فقط، هي المدة الرئاسية في فرنسا، حيث سيتحصل بوتين على ثالث أصوات الفيتو في مجلس الأمن في حالة فوز مارين لوبين، وصوت الاتحاد الأوروبي الوحيد في مجلس الأمن.. حيث تتقاطع أهداف مارين لوبان وبوتين في تقويض قوة الاتحاد الأوروبي لصالح المصلحة الوطنية الضيقة لكل من روسيا، وفرنسا اليمين المتطرف، التي لا ترى سوى ذلك الجزء الانعزالي الضيق من سياسات فرنسا، وتتقاطع أيضاً في تقويض نفوذ وقوة حلف الناتو، حيث ترغب لوبان في الخروج من الحلف العسكري وتحييد فرنسا عن المواجهات التي يخوضها الحلف. أضف إلى ذلك أن فرنسا هي الدولة الوحيدة في الاتحاد الأوروبي التي تمتلك سلاحاً نووياً. وهو الأمر الذي يحسب له الرئيس الروسي على ما يبدو كثيراً.

لذلك تبدو فرنسا في أعين القيصر الروسي إمبريالي الحاضر، شيوعي الماضي، هدية كبرى سعى لأجلها منذ سنوات وها هو يتحضر لاقتناصها على طبق اليمين المتطرف الفرنسي، ليشكل معهم حلفاً تحت شعار ديني، وفي طموح انعزالي، حلفاً يضم حليف بوتين الأساسي في أوروبا، فيكتور أوربان رئيس وزراء المجر، والرئيس البيلاروسي لوكاشينكو، وحكومة أوكرانيا الجديدة التي يحلم أن يعيينها بوتين قريباً..

ومن أجل تأكيد هذا الموقف يبدو أن حلفاء بوتين هم أنفسهم سيكونون حلفاء مارين لوبان في حال نجاحها في الوصول إلى الإليزيه، الخامنئي مرشد إيران الثوري التوسعي، والأسد الرئيس المدعوم من حلف روسيا وإيران، وبالطبع الصين.. حلف في مواجهة ما تسميه وتستعديه زعيمة الجبهة الوطنية، الخطر القادم من الجنوب والشرق، "خطر المهاجرين وانزياح الهوية الوطنية"..

وليس من باب المصادفة أن ينطلق اليميني المتطرف راسموس بالودان إلى ضاحية مدينة مالمو المكتظة بالمهاجرين الصوماليين، من أجل حرق نسخة من القرآن، لإثارة فوضى وجلبة ومصادمات عنيفة في ذلك البلد المسالم، لتنعكس أخبار تلك المواجهات على الناخب المتأرجح بين اليسار المتشدد واليمين المتشدد الفرنسي.. وليس من باب المصادفة انطلاق العمليات العسكرية في أوكرانيا قبيل الانتخابات الفرنسية بشهرين بالتمام والكمال.. وقطع الغاز الروسي عن أوروبا بسبب العقوبات الأوروبية الصارمة ضد بوتين ونظامه، والتسبب بموجة ارتفاع للأسعار والوقود غير مسبوقة في فرنسا وأوروبا، مما سبب سخطاً عميقاً في الشارع الفرنسي.. وليس من باب المصادفة أن يستقبل بوتين قبل أعوام مرشحة اليمين المنتطرف في الكرملين، وأن تحظى ذات السيدة بقرض بقيمة تسعة ملايين يورو من بنك روسي\ تشيكي، مع تسهيلات هائلة للسداد..

بالطبع لا يلقي بوتين ثقله كله على كاهل السيدة لوبان، لكنه يعتمد على أكثر من طرف من خلال التشديد على الهوية القومية والنزعات العنصرية، وشد العصب الإيديولوجي لدى الساسة الفرنسيين، الذين أدركوا أن المجتمع الفرنسي بات في حالة ضجر من سكونية الوضع الاقتصادي والسياسي، وبحاجة لقيادة كاريزماتيكية، حيث حصل ثلاثة من مناصري فلاديمير بوتين في الانتخابات الفرنسية على 53 % من مجموع الأصوات العام، وهم مارين لوبان، وجان لوك ميلانشون، وإريك زومور، وهم ثلاثتهم معجبون بشدة بشخصية بوتين القيادية ومناصرين سابقين لسياساته ما قبل غزو أوكرانيا.. رغم إنكارهم بعد ذلك دعمهم للرئيس الروسي في إطار حملاتهم الانتخابية خوفاً من ضغط الشارع الفرنسي الرافض لغزو أوكرانيا..

وتبدو مارين لوبان متابعة لهذه المعارك السياسية، ومدركة ومؤمنة بالفكرة التي قالها بوتين ذات يوم للرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي عن أن بوتين هو صانع الملوك في أوروبا

جان ماري لوبان والد المرشحة الرئاسية مارين لوبان، هو الآخر شخصية مثيرة للجدل، فهو مقاتل سابق في الحرب الجزائرية وفيها خسر إحدى عينيه، زائر مثابر لاحتفالات السفارة الإيرانية في باريس لعيد ثورة الخميني على الشاه، مُشكك عنيد في الهولوكست اليهودي على أيدي النازيين.. أورث ابنته إرثاً كبيراً من الكراهية للآخر، والعدائية، وهو لا يزال في أيامه هذه وقد بلغ الثانية والتسعين من عمره، يدعم ابنته في دغدتها للتقاليد اليمينية الفرنسية، التي تستمد شرعيتها من رفض الآخر وتحميله كامل المسؤولية عن الاحباط القومي الفرنسي الذي تفاقم الغضب نتيجة اللطمات المتكررة التي تعرضت لها فرنسا من قبل الحلفاء والخصوم على حد سواء، ففي قضية الغواصات النووية الأسترالية التي أقصت أميركا بايدن فيها فرنسا عن الحلف الجديد المتشكل في جنوب المحيط الهادي، حدث إحباط سياسي، وفي لعبة الشطرنج المتتالية بين ميليشيات فاغنر الروسية وبين فرنسا على الرقعة الإفريقية في مالي والسنغال وبوركينا فاسو وليبيا والجزائر، أي تلك البلاد التابعة تاريخياً للنفوذ النيو استعماري الفرنسي، ومحاولة بوتين إزاحة فرنسا ماكرون عنها.. والحلول محلها.. كانت فرنسا تتلقى اللطمات الاستراتيجية من الطرفين.. وتبدو مارين لوبان متابعة لهذه المعارك السياسية، ومدركة ومؤمنة بالفكرة التي قالها بوتين ذات يوم للرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي عن أن بوتين هو صانع الملوك في أوروبا، وأن من يقف معه سيكون ملكاً على أوروبا بكاملها، ولربما هي تطمح لأن تملأ هذا الفراغ، فمن المعروف أن الشعب الفرنسي يميل في عمق شخصيته، إلى تبني فكرة القائد الملهم، صاحب السطوة التي ستحقق لفرنسا ما تصبو إليه من حضور عالمي، نابوليون كان مثالاً، حتى سقط على الحدود الروسية، في غزوته الشهيرة، ديغول كذلك حتى خرج من حلف الناتو عسكرياً، ثم أسقطه شباب جيل ثورة 1968..

بكل تأكيد لا ينتمي الساسة المعاصرون الأوروبيون إلى تلك الطينة من القادة، لأسباب يطول ذكرها ربما سنتعرض لها في مقام آخر، لا ماكرون ولا لوبان، ولا حتى أولاف شولتز ومن قبله ميركل في برلين، فالحاكم الأوروبي المعاصر، محاصر بواقعية سياسية مدهشة، تمنعه من خوض أحلام سياسية إمبراطورية، لكن حذار، كل الحذر، من أن تتحول دولة بحجم فرنسا، وحضور فرنسا كشخصية ثابتة بين الأمم، إلى بيدق على رقعة الصراع بين ملوك الشرق والغرب، بسبب قصور الرؤية وانعدام البصيرة السياسية لحكام يعتقدون أنهم يعبثون بمقود السفينة الفرنسية كي يحرفوا مسارها نحو الأسفل. ففرنسا في عمق معناها، ليست سوى ثلاث كلمات زرعها يوماً الثوار أمام سجن الباستيل، وعلى تلك الكلمات الخالدة بنت إمبراطوريتها وإمبرياليتها الأخلاقية.