رموز وكسر تابو السياسة.. "إعلان الأهرام" ومسلسل "ابتسم أيها الجنرال"

2023.04.25 | 06:46 دمشق

رموز وكسر تابو السياسة.. "إعلان الأهرام" ومسلسل "ابتسم أيها الجنرال"
+A
حجم الخط
-A

في اليوم العاشر من رمضان الجاري ظهر إعلان في الصفحة الأولى لصحيفة الأهرام المصرية، قلب رأسا على عقب وسائل التواصل الاجتماعي وجمهور اليوتيوب المصري، بل وجمهور تلفزيونات المعارضة المصرية التي تبث من الخارج..

الإعلان هو ببساطة يخص سيارة جيب موديل التسعينات يرغب صاحبها ببيعها، بمبلغ لا يتجاوز سبعة آلاف دولار ثمنا لها، بينما سعر الإعلان في الصفحة الأولى لصحيفة الأهرام لا يقل عن عشر آلاف دولار!!

الصدمة ليست هنا، بل في اجتهاد أكثر من يوتيوبر مصري لـ " تحليل وتفسير" هذا الإعلان، كما لو أنه معادلة رياضية أو حدث سياسي أو جريمة غامضة تحتاج لفك خيوطها..

في الحقيقة كان تفاعل الإعلام الشعبي المصري -أي الإعلام غير الحكومي- على هذه الشاكلة، وذهب بعض اليوتيوبرية لتفسير الإعلان بأسلوب بوليسي.. فافترض أحدهم أنه رسالة مشفرة من جهة ما خارج مصر (دولة خليجية، أو جهة تعمل مع الأميركان) إلى جهة ما داخل مصر (السيسي أو حتى جمال مبارك) وراح يوتيوبر آخر يحلل الإعلان كلمة كلمة.. ليقول إن السيارة وهي -جيب عسكرية- يقصد بها النظام العسكري أي السيسي، وأن موديل التسعينات يقصد به فترة مبارك، ويتابع في فك رموز الإعلان كما لو أنه يفك شيفرة نص هيروغليفي في قطعة آثار مصرية..

ما دفعني للاستشهاد بما سبق هو مسلسل ابتسم أيها الجنرال الذي عرض طوال شهر رمضان ولقي إقبالا سوريا وعربيا غير مسبوق، بالنظر لنوعية المسلسل ومحتواه السياسي..

والحقيقة أن أوجه التشابه ليست كبيرة بين إعلان الأهرام ومسلسلنا، إلا من حيث الخلاف حول قراءة المسلسل وقراءة شخصياته، بل وحتى سبب إنتاجه وعرضه، التي راح يشكك البعض بها كلها دفعة واحدة.. لكن الطريقة الطريفة لتفسير مسألة جديدة وغريبة دفعتني للاستشهاد بطريقة فك الرموز التي اتبعها اليوتيوبر المصري الظريف.

بالفعل يحتاج هذا المسلسل من أجل فهم واستيعاب أحداثه وشخصيته لاسيما لو كان ذلك يجري على خلفية معلومات وتصورات ثابتة لدى معظم السوريين عن نظام ديكتاتوري يحكمهم منذ نصف قرن، تحتاج شخصياته وأحداثه لدليل قراءة أو خريطة سياسية أو ربما قراءة رمزية و"تهجئة تاريخية" إذا جاز التعبير..

تبدو شخصية وضاح فضل الله الأكثر غموضا، فلا نعرف لها مقابل في الواقع، ربما كان وضاح فضل الله يجمع أكثر من شخصية

وبعض من تابع المسلسل فعل ذلك بالفعل، فمثلاً اختلف بعضهم في رمزية شرب الرئيس لكأس الحليب، وتجادل البعض في دلالة الضوء الخافت في غالبية مشاهد المسلسل، إضافة لمعضلة تمثلها شخصيات المسلسل الرئيسية..

شخصيات كلها مركّبة

على سبيل المثال تبدو شخصية وضاح فضل الله الأكثر غموضا، فلا نعرف لها مقابل في الواقع، ربما كان وضاح فضل الله يجمع أكثر من شخصية، كشخصيتي رامي مخلوف المختبئ الذي ينشر معلومات عن النظام، وشخصية عبد الحليم خدام مثلا الذي أحدث انشقاقه ليلة رأس السنة 2005-2006 زلزالا ضعضع أركان النظام...

قل الأمر عينه -وإن كان بدرجة أقل تعقيدا- بالنسبة لبقية الشخصيات.. فالرئيس فرات يمثل الديكتاتور الأب والديكتاتور الابن، أم يمثلهما معا فقط؟ أم هو يمثل أكثر من ديكتاتور عربي؟ أم هو يمثل مطلق ديكتاتور؟  فشخصية الرئيس أحيانا بمظهر الأب أو الابن، أو سواهما، وأحيانا تظهر كما لو أنها شخصية "نموذج" مجردة تمثل كل ديكتاتور..

بل إن الرئيس - يلعب دوره الفنان البارع مكسيم خليل- يظهر كما لو أنه رئيس مافيا-أسرة، وفي أحداث محددة - قتل بمسدسه ضابطا معارضا له، داخل المسجد- قد يكون أقرب إلى صدام حسين (قتل أقرب المقربين له بمسدسه الشخصي بتهمة الخيانة).

ثم هل يمثل الضابط عاصي الأخ ماهر أم العم رفعت أم يمثل شخصية ابن ديكتاتور عربي معروف بعلاقاته الغرامية وإجرامه؟ أم هو يمثل الشخصية الثانية في السلطة التي تحلم بالسلطة وحدها أو على الأقل تريد تقاسم السلطة مناصفة؟؟

إذ تبدو شخصية عاصي في الحلقات الأولى تجمع ما بين شخصيتي ماهر ورفعت معا بدلالة نعته بالقائد هذا ما عرف به رفعت الأسد طوال حياته..

بمجرد ظهور عاصي في أي مشهد ستشعر على الفور أنك أمام عائلة مافيا وليس أمام عائلة حاكمة.. عائلة لا يهمها أي شيء فعليا سوى البقاء والدفاع عن صورتها المتوحشة وسمعتها في عالم الجريمة المنظمة.

الوحشية المنفلتة من عقالها

ستعلم حلقة بعد أخرى كم هو سهل مثل شربة ماء أن يصبح الإنسان قاسيا متوحشا، دون عناء أو تعلّم، ودون "مواهب" أو صفات خاصة. وستدرك بشيء من التأمل كم هو ضعيف وساذج كل زعيم عنيف متوحش، وكم هو يستحق الشفقة.

فالوحشية تُخرِج الإنسان من عالم الإنسانية ولا تعيده إلى عالم الحيوان، فالحيوانية نظام طبيعي منضبط بقوانين- ونحن نظلم الحيوان والحيوانية حينما نلصق بهما صفة الوحشية المنفلتة أو عدم الانضباط- بل تقذف به إلى عالم الأبلسة - لو جاز التعبير- حيث الأذى والعنف لا حدود لهما ولا ضابط وحيث يستخدم الذكاء الخارق لإحداث أكبر قدر من الأذية بالبشر أو الطبيعة.

وإذا كان ربع ما تابعناه من أحداث في ابتسم أيها الجنرال صحيحا فلم يعد لدينا شك أننا أمام عائلة مافيا تحوز شرعية دولية من المافيا الدولية العظمى، وبالتالي ربما لن يزيحها من مكانها أحد.

فرادة ابتسم أيها الجنرال تأتي من كونه أول عمل درامي في تاريخ الدراما التلفزيونية العربية يتجرأ كاتب سيناريو وشركة إنتاج على كسر تابو الرئيس

ربما يغير هذا العمل - رغم أنه نص درامي روائي وليس توثيقيا- بعضاً من قناعاتنا أو تصوراتنا وسيدفعنا لإعادة بناء رؤية جديدة للنظام والعائلة، وربما دفعنا لإعادة بناء تصور جديد لكل الأنظمة الشبيهة به، وعلى الأقل سنفهم أكثر ماهية السلطة المعاصرة وعلاقتها بالعنف والعالم، كما سندرك طبيعة شبكة علاقاتها العابرة للدول والمؤسسات النافذة العالمية الكبرى.

لأول مرة الدراما العربية تكسر التابو السياسي

بالمجمل فإن فرادة ابتسم أيها الجنرال تأتي من كونه أول عمل درامي في تاريخ الدراما التلفزيونية العربية يتجرأ كاتب سيناريو وشركة إنتاج على كسر تابو الرئيس، فيظهره في شخصية حية، بعدما كان يظهر صوته دون وجهه أو يظهر الرئيس من الخلف في مشهد أو مشهدين (كما لو أنه رسول أو نبي لا يجوز تصويره) وأكثر من ذلك يتكرر ظهوره في مسلسل واحد في كل حلقة، طوال حلقاته الثلاثين، حينا كما عرفناه مما تردد عنه فصار "حقيقة"، وحينا كما لم نسمع أو نقرأ عنه.

فبعد نهاية كل حلقه تراودنا خواطر كلها تصب في فكرة محورية هي: هل يعقل أننا طوال هذه السنين كنا نعيش "متل الأطرش بالزفة". إذاً فما كنا نسمعه ونقرأه عن السلطة والعائلة ليس سوى سطور وقصاصات في أفضل الأحوال من مجلد سري ضخم..

الآن بفضل الدراما أمكننا أن نأخذ ولو فكرة مجملة عن تاريخنا عن نصف قرن من سلطة الأسد.. بل أكثر من ذلك، فقد تمكنا من أن نسمع ونرى ونشم ونتخيل ما الذي يحيكه الشياطين لبلادنا ولنا في مخبئهم "القصر".

"ابتسم أيها الجنرال" ثورة في الدراما التلفزيونية العربية، ربما لن يكتب لها أن تكرر قريبا..