رسالة في صناعة المشيخة

2020.04.17 | 07:24 دمشق

be9cbf3c-20ae-4f1b-b22a-f267b1c16929.jpg
+A
حجم الخط
-A

خصصتُ فترة الحجر الصحي لتصفح مواقع مكتبات المخطوطات العربية، فوقعت على رسالة عنوانها لطيف وهو (رسالة في صناعة المشيخة)، وهي من الرسائل المجهولة التي لم يرد لها ذكر في فهارس المخطوطات، ونظراً لغرابتها وطرافتها فقد أحببت تقديمها قبل التحقق من كاتبها وتاريخ كتابتها، وهأنذا أنقلها بتمامها كما وجدتها!

يقول مؤلفها:

"اعلم وفقني الله وإياك أنّ المشيخة صناعة كباقي الصناعات، كالزراعة وهي للمطعم، والحياكة وهي للملبس، والبناء وهي للمسكن، والسياسة وهي للتأليف والاجتماع والتعاون على بقية الأعمال وضبطها، ولكل صناعة من هذه الصناعات ما يعين عليها، وما يتمّم به أصولها ويزيّنها. وقد يجتمع للمرء أكثر من صناعة فيُنسب إليها مجتمعة، كما حدث للشاعر كشاجم فإنّ اسمه منحوت من صناعاته، فالكاف من كاتب، والشين من شاعر، والألف من أديب، والجيم من منجم، والميم من مؤدِّب، وقد كتب مشاركنا في الفلسفة أبو يوسف الكندي رسالة عنوانها: (رسالة في الترفق في الصناعات)، وكتب كذلك صديقنا في أيام الطلب طاش كبري زاده رسالة وسمها بـ: (رسالة في الصناعات)، ولكنهما أغفلا ذكر صناعة المشيخة، وذكرا ما هو أقل خطراً ومكانةً ومنزلة، ولذلك استدركنا في هذه الرسالة ما فاتهما، وحررناها في ثلاثين إيقاظاً، واختصرنا الكلام غاية الاختصار، فالكلام الكثير في هذا الموطن لن ينفع البليد، ولن يفطم الوليد.

قال أحد متفلسفة الإسلام: "أصول الصناعات أربعة: صنعة التجارة، والحدادة، والنساجة، والسياسة، وأصعبها صنعة السياسة، وأصعب هذه الصناعات صناعة النبوة". ولا يعنينا هنا أن نبحث في مقصود قوله: (صناعة النبوة): هل قصد أنها صناعة إلهية أم صناعة بشرية؟ فهذا خارج حدود عنايتنا، أما ما يعنينا هنا فأن نقول: إن صناعة المشيخة تقع في برزخ بين أصعب الصناعات، أي: السياسة، وبين أخطرها على الإطلاق أي النبوة.

وقال أردشير: "الدين والمـُلك توأمان. الدين أصل، والمـُلك حارس، وما لا أصل له فمهدوم، وما لا حارس له فضائع"، ولذلك نقول: الدين بحاجة إلى صناعة هي المشيخة، والمـُلك بحاجة إلى صناعة هي السياسة.

قال أحد متفلسفة الإسلام: "أصول الصناعات أربعة: صنعة التجارة، والحدادة، والنساجة، والسياسة، وأصعبها صنعة السياسة، وأصعب هذه الصناعات صناعة النبوة"

إيقاظٌ أول: لكل صناعةٍ صناعةٌ مهيِّئة ومُعينة تقع تحتها، كصناعة الحدادة التي تُعدّ بها آلات الزراعة، والغزل يُعد به محل الحياكة، إلى آخر ما هنالك من صناعات، وإذا سألتني أخي السالك في درج المشيخة عن الصناعات المهيّئة والمعينة لصناعة المشيخة فإنني أرشدك وأمنحك وأحبوك: هما صناعتان لا ثالث لهما: الجدل والدجل، فإنك بهما تجدل الأحابيل، وتجندل الرؤوس، وبدونهما تسعى إلى الهيجا بدون سلاح. ألم تسمع أبا مالك وهو يقول: "من تمشيخ ولم يتقن الجدل والدجل فقد تخرّق، ومن أتقن الجدل والدجل ولم يتمشيخ فقد تفسّق، ومن جمع بينهما فقد تحقّق"؟ ولست هنا في صدد إيراد مظان تعليم الجدل، فأنت تعلمها من خلال دراستك وتحصيلك، ولكن ألفتُ عنايتك، وأنت تبتغي الصعود في مراقي صناعة الدجل، إلى وجوب معرفة (أصناف المكدين وأفعالهم)، فالكُدية ذروة سنام الدجل، وتتبع الأخبار والأشعار والنصوص والفصوص المتعلقة بصناعة (الكُدية) من أوثق ما يحوِّل معرفتك إلى مَلَكة، والشيخ المتمكّن هو من يعرف مضاحيك أقوالهم، ومحاسن مخاطباتهم، ونوادر طبقاتهم، ويتخذها زاداً ونُجعة.

 

إيقاظٌ ثانٍ: اعلم، رحمك الله، أن أبا عبد الله الطبري سُمع وهو يقول: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت في دعوى حالٍ، وتمهيد أمرٍ، واصطلاح طريقة، لما تجاوزت ادّعاء النبّوة، ولكنّي مزّقت ثوب الشّباب، وودّعت راحلة الأمل". وأخزاه الله من قول وقائل، لكننا نستفيد من قوله أنّ طلب صناعة المشيخة يجب أن يبتدئ في مقتبل العمر، وناشئة الشباب، لأننا لم نرَ، بعد التتبع والاستقصاء، من أفلح في هذه الصناعة لمن بدأ بطلبها وقد جاوز حدَّ الكهولة.

 

إيقاظ ثالث: طلب المشيخة المبكّر لا يعني ممارستها وإعلانها، ولكن التحضير لها وطلب أسبابها، لأنّ إعلانها والانشغال بها زمن التحصيل يقضي على التحصيل، وإذا لم يتمّ تحصيلك ظلت مشيختك ناقصة، تُلحظ بالشك، وتُلفظ بالارتياب، وتُرمى بسهام الطعون، لذلك التفت إلى دروسك، وأحكم تحصيلك، ونل الشهادات والإجازات، فهي كالشحم الذي تدهن به عجلة المنجنيق، وبدونها لن يتحرك منجنيقك، ولن تصل رميتك، وستضطر عندئذ إلى ركوب جدد الدجل تعويضاً لنقص، وإلى أن تنغمر في لجة الختل رتقاً لفتق. ولتعلم أنّ قليل الدجل والختل في المشيخة صالحٌ مثمر، وأن كثيرهما فاسد مدمّر.

 

إيقاظ رابع: المشايخ أصناف: مشايخ قالْ، ومشايخ حالْ، أما (القال) فأنت أهلٌ له بمقدار تحصيلك وكدّك، ونهلك وعلّك، وأما (الحال) فعطية إلهية، ومنحة ربانية، لا يجوز فيها التصنّع، ولا يمشي معها الادعاء، ولا ينفع التشبّع بها من دون أن تُعطاها، بل سرعان ما ينهتك ستر الادعاء، وينكشف زيف الانتحال، وهنا يُستحسن للشيخ أن يصطفي منشداً قوّالاً صاحب نغم وربَّ صنعة، فيسترقّه بالعطاء، ويستخلصه بالمِنَح، ليترنم بذكر المواجيد والأحوال، فيعطف العقول والقلوب إلى الشيخ، ويلهب مكامن الشوق له، والارتماء في عتباته.

ومن أصنافهم: مشايخ درس، ومشايخ هرس. مشايخ الدرس أنفع، ومشايخ الهرس أشبع وأمتع، وأصول الصناعة تقتضي أن تحسن الموازنة في نفسك، فتكون شيخ درس وهرس في الآن نفسه، بحيث لا يغلب الدرس على الهرس فتفقد الغوغاء والعوام والطغام، ولا يغلب الهرس على الدرس فتفقد الحظوة لدى الصفوة، بل ساعة فساعة، وكذلك من أصول النُّجح الخلطُ بين العلم والخرافة، فلا يكون حديثك كله من ذا أو ذاك، بل هكذا وهكذا، مع مراعاة مخالفة التوقعات، فتفيض في حديث الخرافة إذا توقعوا حديث علم، وتسهب في حديث العلم إذا استسلموا لحديث الخرافة.

إيقاظ سادس: أول وسائل هذه الصناعة وآلاتها أن يكون للشيخ مقر: (مسجد أو جامع أو زاوية أو رباط أو خانقاه)، وأن يختاره بين العمران، وأن يعمد بعد ذلك إلى معرفة سكان الحي: طبقاتهم وأحوالهم

إيقاظ خامس: اعلم أنّ زبون هذه الصناعة من البشر كالفرس الجموح، أو البغل الشموس، أو السمك السارح في البحر المالح، فيأتي الشيخ فيصطاده ويروضه ويؤهّله ويرقّيه، ويعلّمه ويدرّبه وينمّيه، وهؤلاء الزبائن رغم كثرتهم الكاثرة فئةٌ محدودة، وجماعة معدودة، يتقاسمها أربابها، ويتنافس على اكتسابها وحيازتها أصحابها، والصَّنَاع من هؤلاء المشايخ من لا يروم اصطياد زبائنه من القفر، ولا يرمي شباكه في البحر، ولكن يرنو إلى زبائن المشايخ، فيرمي ألجمته وشباكه في ساحاتهم وقفافهم، وليتلطف وهو يصطاد التلميذ المذلل والزبون المستأنس. وهذا سرٌّ من أسرار الصنعة، يجب أن يبرع الشيخ فيه، فيجوّد اختياره للشَّرَك والحبالة، ويحسن انتقاءه للشباك والصنانير، وليتلطف، وأولى درجات التلطف إيهام الزبون أنه محبٌّ لشيخه، مقدّر له، يجري معه في مضمار واحد، وأنه لهذا الشيخ ناصح أمين، وأنّ هذا الشيخ من أهل الكمالات، ثم يكرر ذلك مرات ومرات إلى أن يقول أخيراً: إن الشيخ من الكُمّل لولا هنات، وليتلطف، إلى أن يستدرج التلميذ ويُطبق الفخ أو القفص، وعندها لا بأس بأن يسلق الشيخ القديم بما شاء تحصيناً للزبون من العودة إليه، وتنفيراً له من أيامه الخالية معه.

 

إيقاظ سادس: أول وسائل هذه الصناعة وآلاتها أن يكون للشيخ مقر: (مسجد أو جامع أو زاوية أو رباط أو خانقاه)، وأن يختاره بين العمران، وأن يعمد بعد ذلك إلى معرفة سكان الحي: طبقاتهم وأحوالهم، فيبحث عن رجل السلطان الأكبر بينهم، ويستحسن أن يكون من كبار العسس أو كبار البصّاصين، وعن تاجر، وطبيب، وقاض ومعلم، شرط ألا يعرفوا بعضهم من قبل معرفة وثيقة، ويدعو الجميع إلى وليمة، ولتكن خاروفاً محشياً بالرز واللحم وأنواع المكسرات من الفستق الحلبي العاشوري، والجوز الدمشقي، والصنوبر البلدي، واللوز الأمريكي، والكاجو الهندي، وما يتلوه من حلويات، ولتكن من محلات مهروسة أو مستت إن كان في حلب، أو من محلات مهنّا أو قزّيها أو نفيسة إن كان في دمشق، أو من محل هافال إن كان في كوباني التي كانت تدعى في سالف الأزمان عين العرب، وعند الاجتماع على الوليمة عليه أن يوهم الجميع أنَّ معرفته بكل واحد منهم قديمة عريقة، واضحة فجاجها، ومشدود عناجها، وسوف يدعوهم التاجر من كل بدّ للتوِّ إلى وليمة، فالطبيب، فالمعلم، وسيغدو الشيخ حينها سرّة اللقاء وبهجته، وعقدة الاجتماع ومهجته، وسيشعر الجميع تجاهه بالامتنان، وسيقابلون عرفانه بالعرفان.

 

إيقاظٌ سابع: تقوم صناعة المشيخة على الحكمة، والتصرف مع كل تلميذ بما يلائم مقتضى الحال، فلكل زبون قابلية واستعداد، وميزان وسعر، وطريقة تأليف وتدجين، والشيخ البارع مَن يضع الأمور مواضعها مستهدياً بقول المتنبي الحكيم:

ووضع الندى في موضع السيف بالعلى..... مضرٌ، كوضع السيف في موضع الندى

ومن تمام الحكمة أن يجانب الشيخ التصنع والمخالفة المستنكرة في الهيئة، في مأكله وملبسه ومجلسه وتكلمه، فلا يبالغ في التشدق، ولا يكثر منه، بل يكفيه أن يتشدّق مرة أو مرتين في الأسبوع، وليحرص كل الحرص على أن يجري أحكام التجويد في كلامه من إخفاء وإدغام وغنّة بين الفترة والأخرى، حتى يعلم الأتباع أن شيخهم يعرف، ولكنه لا يبالغ ولا يتعمق ولا يخرج عن حد القصد في أموره كلها.

 

إيقاظ ثامن: إذا أراد الشيخ أن يوسّع صناعته، فلا بدّ له من حجة سلطانية، ووثيقة ملوكية، تيسّر له ....".

وهنا انتهت أوراق المخطوطة، وعسى أن نجد بقيتها في المكتبات الإلكترونية الأخرى التي ما زلنا نبحث فيها؛ لأن الكاتب ذكر في المقدمة أن الرسالة تحتوي على ثلاثين إيقاظاً. والله ولي التوفيق، ومنه نستلهم السداد والإمداد.