رسالة شيرين الأخيرة من تابوتها على الهواء

2022.05.15 | 06:52 دمشق

gxprx-1200x660.jpg
+A
حجم الخط
-A

لم تسقط كاميرا شيرين أبو عاقلة وهي محمولة في تابوتها إلى مقبرة جبل صهيون في القدس، وكأنها بصوتها الذي يشبه البوح تبث عبر رحلتها من جنين إلى القدس حكاية فلسطين أو كما قال أحد الضيوف على الهواء إنها إعادة مختلفة لسردية فلسطين التاريخية، وحتى في تابوتها المترنح بين أكف مشيعيها وهراوات الجنود الإسرائيليين كانت تقول: هؤلاء هم الصهاينة أيها العالم الأخرس المتواطئ.

انتصرت اليوم شيرين أبو عاقلة على الموت وهي في الطريق إلى مثواها حيث ببساطة نقلت لنا رسالتها التي حرصت عليها لربع قرن، رسالة معاناة الفلسطيني في وطنه المحتل، رسالة الصراع بين القمع والحرية، وبين أحصنة الخيالة السوداء والأجساد العارية.. بين الحق ونقيضه.

انتهت شيرين إلى قبرها أخيراً.. اهتدت إلى راحتها في رسالتها الأخيرة، واختصرت رحلة طويلة من العمل في مهنة شاقة وأصيلة، أعطتها من إصرارها فأعطت لها كل هذا الحب والمجد

ثلاثة أيام من التشييع، من سقوطها تحت شجرة في مخيم جنين إلى القدس، ومرورها الصعب في قرى ومدن فلسطين كأنما تودع كل هؤلاء البشر المحكومين بالقهر، وكأنها تهمس لهم ها أنا في تابوتي أراكم وأنقل صورتكم كما اعتدت يومياً، وأنتم تبكون وتقتلون وتقاومون.. حتى وأنتم تلوحون لي تلويحة وداعكم أقول للعالم: ها هي فلسطين الباقية الخالدة.

انتهت شيرين إلى قبرها أخيراً.. اهتدت إلى راحتها في رسالتها الأخيرة، واختصرت رحلة طويلة من العمل في مهنة شاقة وأصيلة، أعطتها من إصرارها فأعطت لها كل هذا الحب والمجد، وأخلصت لرسالتها فأوصلتها من بين جثث شهداء جنين، ومن خطوط المواجهات في المعابر، ومن بيوت القهر حيث دموع أم تشتاق ابنها الأسير.. انتهت رحلتها لكن الرسالة وصلت.

استثناء الرسالة الصحفية وإضافاتها اليوم ليست في عدد المشيعين وطول الجنازة في تاريخ فلسطين، وحضور عشرات السفراء والقناصل وممثلي الدول، وليست في المواجهات مع الصهاينة، وليست في الذهاب أبعد في محاولتهم اختطاف الجثمان.. اليوم الإضافة كانت في صورة الذعر من علم فلسطين الممنوع، من قطعة القماش التي تستفز المحتل بعد سبعين سنة من تأسيس دولته برعاية العالم المنافق، وفلسطينياً كانت الوحدة من جديد بين الفلسطينيين في قرع أجراس كنائس كل الطوائف لأول مرة، وفي هتافات المسلمين والمسيحيين معاً في التشييع والوداع والصمود.

في الطرف الآخر من الألم المتشابه.. لنا في هذا التشييع كسوريين حصة من الذاكرة القريبة حيث يتشابه القتل العمد لكل من حاول أن ينقل موتنا على الهواء ولو بكاميرا هاتف محمول، وهؤلاء لم يوثق منهم إلا قلة قليلة ممن عملوا مع مؤسسات كبرى في حين غابت أسماء وصور ناشطين من المشهد، وأما في استدعاء شريط موت العاملين في الصحافة فهو مزدحم بأسماء ووجوه من أعدموا أو ماتوا تحت التعذيب.

أما جنازات الشهداء في سوريا فلم تكن فقط مهانة بالخيول السوداء.. سوريون ماتوا وهم يشيعون موتاهم، ومقابر حرثتها الدبابات، وقبور جماعية تم دفنها بالإسفلت كي تندثر الجريمة، وجثث أخرجت من حرمة موتها إلى الطرقات.. ثمة مشاهد تسحب الذاكرة إلى حزنها ومقتلها.

أيقظت شيرين بموتها موتنا المستمر رغم هدوء النحيب، ورسالتها إلى السوريين عن ظلم العالم ونفاقه حقيقة لا يمكن القفز فوقها إنما أضافت إليها أن الموت لا يوقف صوت الحقيقة

ومع كل هذه القسوة من المحتل في تعامله وخشيته مما يوقظه التابوت الحي إلا أن الجنازة وصلت إلى منتهاها، ولم تسقط قذيفة هاون فوق جموع المشيعيين، ولم تنفجر سيارة ملغمة فتسقط 200 قتيل دفعة واحدة، ولم تحول الطائرات مدناً كما هي إلى مقبرة.

أيقظت شيرين بموتها موتنا المستمر رغم هدوء النحيب، ورسالتها إلى السوريين عن ظلم العالم ونفاقه حقيقة لا يمكن القفز فوقها إنما أضافت إليها أن الموت لا يوقف صوت الحقيقة، ألم تنقل لنا من تابوتها تقريراً مطولاً عن كيفية الحياة تحت هراوات الطغاة والمحتلين.. ألم تسمعوا صوتها الناعم القوي من فوق الأكف المشيعة وهي تنهيه بعبارتها الشهيرة: (كانت معكم شيرين أبو عاقلة).