"رحلة مدرسيّة" تحت النار

2021.06.19 | 06:00 دمشق

01-110.jpg
+A
حجم الخط
-A

كانت الرحلة المدرسية موقوتة مثل العيدين، لكن ليس بالأهلّة وإنما بالشمس وحلول فصل الربيع، وفي الفصول الثلاثة المظلومة أيام خضراء، ولم تعرف مدارسنا الرحلات العلمية والأدبية والجغرافية.

وكنت أكتب واجب التعبير عن الرحلة نقلًا من كتب الإنشاء، وكان يمكن أن نزور أمكنة ومشاهد؛ أن نزور دكانة علي بك بائع ألعاب الأطفال، أن نزور محلَّ أورفلي لصناعة الآيس كريم والمرطبات، أن نزور مساجد المدينة، ونستطلع جمال العمارة الإسلامية ونقوش الآيات بالخطوط العربية على أجسام الحجارة، أو أن نزور كنائس بلدتنا الأربع ونعرف الفروق المعمارية بين الطوائف المسيحية، أن نزور المقابر، ففيها قبور رجال لهم آثار وأخبار، ولم يكن في سوريا كلها حدائق حيوان حتى نزورها.

 حديقة حيوان واحدة:

لكن لم يخلُ بيت من بيوتنا من هرّة وحمام، وأحيانًا دجاج وشياه وبقرة، وكان في حمص قفص حُبس فيه طاووس وحيد، بتهمة غير سياسية، وكان يصيح صيحة تقشعر منها الأبدان: زوجوني يا بني آدم.

وكان في العاصمة ضبع وحيد متنكر في هيئة أسد، حديقة الحيوان السورية الوحيدة هي مجلس الشعب، وفيها كل أنواع الدواب البشرية، ذئاب وجواميس وخرفان، ولم يحدث أن دُعي الشعب لزيارته قط، إن لم يكن لرؤية الحيوانات، فللمشاركة في التصفيق لصكّ التشريعات والجسور القانونية للمرور فوق الشعب.

صارت الرحلة المدرسية قصة لفيلم مصري شهير هو فيلم "آخر الرجال المحترمين"، وهو من تأليف وحيد حامد وبطولة نور الشريف، ويروي الفيلم قصة رحلة مدرسية من الصعيد إلى القاهرة، وضياع تلميذة في حديقة الحيوان، فينصح الناصحون قائد الرحلة المدرّس فرجاني بأن يستعين باللصوص للبحث عنها بعد أن تقاعست الشرطة، ثم يعثرون عليها بمساعدة عمال النظافة، وفي الفيلم حبكات أخرى.

سألت صديقًا مصريًا عن واقعية الرحلة، فجزم بأنها واقعية، وذكر لي أنهم كانوا يقومون بمثل هذه الرحلات حتى التسعينيات، ثم شحت المغامرات واكتفوا بزيارة قبور الفراعنة والأهرامات في أواخر عهد مبارك، لكن من غير لطم عند القبور كما في العراق، مع أن المسلمين (أتباع موسى عليه السلام) كانوا سببًا في موت الفرعون غرقًا، وقد زفّت مصر موكب الفراعنة الذي وُصف بالمهيب قبل أيام.

 الرحلة المدرسية في السينما والمسرح:

كما صارت رحلة المدرسة موضوعًا لمسرحية حلبية عنوانها "رحلة إلى زحلة" للفنان السوري عبد الرحمن عيد، أبرز فناني المهندسين المتحدين، وأبطال الرحلة حسب الظهور، هم: المعلم والمعلمة والسائق، بل إن السائق هو البطل الأول، والركاب كومبارس، فهو صاحب المركبة ورائد رحلة الفضاء إلى كوكب الطبيعة الغنّاء.

أتطوع في رحلة مدرسية قط، ليس بسبب هطول المطر، وتعطل الرحلة، وإنما لأن كلفة الرحلة كانت كبيرة، وتحتاج إلى حقيبة، ولم يكن عندنا حقائب للسفر، عندي الآن عشرون حقيبة، فإحدى هواياتي هي جمع الحقائب تحسبًا لرحلة غير مدرسية، وكنت فقيرًا، وكانت عمتي تخوّفني من الرحلة، وكانت ذات مال ورثته من زوجها، وتكرمني، فتقول أين تتركنا وكلنا بحاجة إليك، أبوك وأمك وعمتك، وأنت تدوخ في السفر، وتحجزني عن الرحلة حتى لا أغرق في النهر، وتأكلني الأسماك، فأنا لا أعرف السباحة.

 الأعور الدجال:

وكنت أتخيل أنني سأجد الجساسة في الرحلة، وهي دَابّةٌ أَهْلَبُ كَثِيرُ الشّعَرِ، أو أجد الأعور الدجال، وهو عملاق مثل عوج بن عنق، أو كائن السيكلوب الإغريقي بعين واحدة كأنها عنبة طافية، وهو شخص منتحل من الروايات الإسلامية في علامات الساعة، رحل رحلة غير مدرسية إلى الأساطير الإغريقية.

من فضائل الرحلة الكريمة أنها تسلخ متاعب الامتحانات وتزيل الحواجز الطبقية بين طبقة المعلمين الشريفة

كان المشاركون في الرحلة يجتمعون فجرًا في ميقات، فيتفقد قائد الرحلة وهو المدير أو من ينوب عنه، أسماء  التلاميذ الذين حجزوا للرحلة، ويأتيهم الباص، ويحملهم مع زوّادات السفر، من تلك النقطة التي اتفقوا عليها في خطة الرحلة الحربية، ويعودون ليلًا بذكريات كثيرة عن المياه والسرطانات والأسماك والشواء واللعب بالكرة وصيد السلاحف، ومن فضائل الرحلة الكريمة أنها تسلخ متاعب الامتحانات وتزيل الحواجز الطبقية بين طبقة المعلمين الشريفة، وطبقة التلاميذ العبيد، فقد كانت غرفة الإدارة مخفرًا حقيقيًا، وكان للمعلمين هيبة كبيرة، وإذا شاركت المعلمات الأبكار في الرحلة،  فاض الأنس، وكثرت النوادر والطرائف والحكايات عن قصص الحب بين المعلمين والمعلمات، وربما أكملت الرحلة للمعلمين نصف دينهم، وعادوا إلى بيوتهم مسرورين.

 الرحلة المدرسية فرض عين:

كبرت ولم أسافر قط، وخشيت أن أموت ميتة جاهلية، لكني كنت في ديباجات التعبير أتغنى بجمال بلادي الصحراوية. كان موضوع الإنشاء قد أنهج للتغني بجمال البلاد السعيدة. وهي سعيدة أن رئيسا عادلا، وسيما يحكمها.

وفي درس التربية الإسلامية علّمَنا معلم كريم وافد أن الرحلة المدرسية فرض عين على كل مسلم، وركن من أركان نشوء الأمم العظيمة، وأن قصة كل حضارة هي قصة مدينتين، والحضارة الإسلامية التي لم يعرف مثلها كوكب الأرض عدلًا ورحمة، هي قصة مكة والمدينة، والثورة الفرنسية وهي قصة دماء بين باريس ولندن، وإن النبي عليه الصلاة والسلام سمّى أسامة بن زيد قائدًا لجيش الفتح، وفيه كبار القادة أمثال عمر وأبو بكر وعثمان وعلي، وكان في سنّنا. وإن الإسلام بدأ بالهجرة، والهجرة رحلة، وإنه يمكن القيام برحلة مشيًا على الأقدام إلى بستان زميل لنا على طرف البلدة، وقبل الاستقلال كانت هناك فرق كشافة سورية يقصدون البرية صغارا ويخيمون فيها أيامًا فيعودون كبارًا. لكن المعلم القدير اختفى في ظروف غامضة قبل أن يتولى قيادة تلك الرحلة إلى طرف البلدة خوفًا من قيامه بانقلاب على النظام.

 خمس فوائد للرحلة:

كتب صديق على صفحته أنّ مدرسته قامت برحلة مدرسية إلى السجن، لأخذ العبرة، وأنَّ الشرطة قامت برفع (ومحله الجر إعرابا) ولد من الأحداث فلقة أمام الطلاب الزائرين، للضيافة أو العظة، والولد غير مكلف ولم يبلغ، ولا يقام عليه الحد، وإن مات فهو شهيد من أهل الجنة، وكانت الفلقة تمرينًا يوميًا في المدرسة الرهيبة ذات الباب الأسود، من غير جنحة أو جرم، وآذن مدرستنا رفيق بعثي مسلح أعرج، لا يسمح للتلاميذ بالخروج من المدرسة لشراء علبة صمغ إلا بورقة إخلاء سبيل من المدير، فلم يجد الزائرون فرقا بين المدرسة والسجن.

وبقينا نخاف من السفر، الذي حثّ عليه الإمام الشافعي وذكر للسفر خمس فوائد، هي:

تَغَرَّب عَنِ الأَوطانِ في طَلَبِ العُلا

وَسافِر فَفي الأَسفارِ خَمسُ فَوائِدِ

تَفَرُّجُ هَمٍّ وَاِكتِسابُ مَعيشَةٍ

وَعِلمٌ وَآدابٌ وَصُحبَةُ ماجِدِ

ذكر الرواة أن العرب قبل الإسلام كانوا يلتمسون لأولادهم المراضع في البادية، فيرسلونهم في رحلات شاقة على الحمير والبعير، لتتفرغ النساء إلى أزواجهن، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ أَيْضًا لِيَنْشَأَ الطّفْلُ فِي الْأَعْرَابِ، فَيَكُونَ أَفْصَحَ لِلِسَانِهِ وَأَجْلَدَ لِجِسْمِهِ وَأَجْدَرَ أَنْ لَا يُفَارِقَ الْهَيْئَةَ الْمَعَدّيّةَ كَمَا قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: تَمَعْدَدُوا (وكانت معد أهل غلظ وقشف) وَاخْشَوْشِنُوا.

 يوم كسفت الشمس خجلا من السوريين:

والخلاصة أننا نشأنا مذعورين، جبناء، حتى ظهرت عورتنا في واقعة كسوف الشمس الشهيرة في سنة 1999 وأعلنت الدولة اليوم عطلة رسمية، وكان الأوروبيون قد غزوا رأس العين السورية لرؤية الشمس خجلى، وكانت رأس العين هي مهوى الرحلات المدرسية، ثم صارت مهوى الأفئدة الأوروبية، لأنَّ وكالة ناسا الفلكية وجدت أنها أنسب منزل لمشاهدة الشمس وهي تنكسف خجلا من أمسنا المنصرم. احتشد آلاف الأوروبيين في رأس العين، واختبأنا في قوقعات بيوتنا، مستجيبين لتحذير إعلام نظامنا المنضمّ الحريص على أبصارنا من العمى، وحمدنا الله على هذه الحكومة لحرصها علينا، إلى أن قال لنا أحد النابهين: إنهم يحافظون على أبصارنا ليس من أجل تعلم العلوم والآداب، وإنما حتى نشاهدهم بها وهم يمشون على السجاد الأحمر، ويقصّون الأشرطة الحريرية، ويرفعون أيديهم بالموافقة على القرارات في حديقة الحيوان التي اسمها مجلس الشعب.

دمّر النظام بيوتنا التي كنا نختبئ فيها من كسوف الشمس، وبدأنا الرحلة الإجبارية مشيًا على الأقدام إلى دول الجوار

استمر الحال على هذه القافية، إلى أن جاءت سكرة الثورة بالحق، فدمّر النظام بيوتنا التي كنا نختبئ فيها من كسوف الشمس، وبدأنا الرحلة الإجبارية مشيًا على الأقدام إلى دول الجوار، تركيا ولبنان والأردن، بل إن مجموعة من الجرحى نزحت إلى رحمة غزاة  فلسطين المحتلة، ومن خاض البحر غرق، لأن النظام لم يعلّمنا فن السباحة، ولم نكن نعرف لغة الجيران الترك، وهم أقارب، بينما يعلمون التلاميذ الآن لغة الصين ولغة الروس، وهم قوم أباعد، ووجدنا أنفسنا في محنة، فعلمتنا المحلية السورية وهي ضعيفة مكسوفة، لا تخرج في الرحلات المدرسية خارج القطر.

نزحنا إلى كل أصقاع الأرض، وكان نصيبي أن أنزح إلى ألمانيا في طائرة، وكنت أخشى السقوط وأتشبث بمقعد الطائرة، ونزح غيري مشيًا على الأقدام إلى الحبشة في رحلة بلغت أشهرًا.

رحلات ابنتي المدرسية بالطائرة:

حثث المعلم على الاستشهاد بالشعر، فقال أبو تمام الطائي مستشهدا:

وطولُ مقامِ المرءِ في الحي مخلقٌ

  لديباجتيهِ فاغتربَ تتجددِ

في السنة الأولى لابنتي في المدرسة قامت مدرستها برحلة مدرسية إلى جبال النمسا، وفي السنة التالية إلى سويسرا، وفي الثالثة إلى بلجيكا، والرحلات إجبارية، وتعلّمت ابنتي عدة لغات، وأجادت قيادة السيارة باكرًا قبل أن تبلغ الثامنة عشرة، فرثيتُ نفسي. أعترفُ بأني قمت برحلة مدرسية وحيدة مع الموظفين في الشركة التي عملت بها، وهم موظفون لكن بعقول تلاميذ، وكانت الرحلة إجبارية لتعزية الرئيس في ابنه باسل، وكنت أدوخ في السفر وما أزال، لكني لم أعتذر عن الرحلة خوفًا من الاتهام بتوهين روح الأمة، وكان ابنه ولي العهد الجمهوري قد قضى نحبه عندما كان يقوم برحلة مدرسية إلى ألمانيا في طائرة فاخرة، ومعه في الطائرة سبائك من الذهب، وآثار سورية كثيرة، أخذها معه لإطلاع الألمان على عظمة أجداد الشعب العظيم، وأذكر أني رأيت البحر لأول مرة قرب قبره، وتوقعت أن أرى الجساسة في القرداحة، وهي دابة أهلب كثير الشعر، أو الأعور الدجال، كأن عينه عنبة طافية، ثم كان النزوح العظيم ، والاغتراب الكبير  لكن ديباجتي كانت قد تخلقت واهترأت من القِدم.