رحلة حفيد محمد علي باشا إلى الديار الشامية

2020.09.07 | 00:00 دمشق

6a28afbf-e232-4cdd-92de-1a06fa6f3b23.jpeg
+A
حجم الخط
-A

قضى محمد علي باشا وهو أحد أحفاد مؤسس الأسرة العلوية قرابة ثلاثين سنة متجولا في البلاد الأوروبية، وزار اليابان والصين ووصفها في كتابه "الرحلة اليابانية" عام 1905، وكان الأمير محمد علي مولعاً بالخيل العربية، وله غرام عظيم باقتنائها، خصوصاً عندما سمع عن الخيل في بلاد الشام، التي يصفها بالخيل المحكمة الخلقة الكريمة الأصل، وعندما سمع بتوفر العديد منها هناك قرر القيام بهذه الرحلة. ولقد سمع عن فوارس الدنادشة وأبطال العكاكرة. ولذلك طلب الأمير من الخديوي الأذن بالسفر عام 1910، وأرفق معه الخديوي "أحمد بك العريس" لمعرفته بتلك المناطق، ثم يحكي محمد علي عن نيته الذهاب إلى بغداد، لكن شركة كوك للسفريات أخبرته أن الطريق من حلب إلى بغداد لم تمسسه يد الحضارة، وقد يستغرق 15 يوماً على ظهر الخيل أو عربات البريد، بسبب عدم توفر سكك حديدية بين المدينتين.

غادر الأمير من بورسعيد على متن باخرة فرنسية ووصل إلى بيروت، وأعجبته رؤية جبل لبنان مشرفًا على المدينة وضواحيها إشراف الملك على رعيته. ويرى كاتبنا مركبة حربية صغيرة من مدرعات الحكومة العثمانية، كانت راسية في مياه الميناء. وكان في استقباله في المرفأ ناظم باشا والي بيروت، ومعه لفيف من أعيان المدينة، وقد تجول في المدينة وتعرف على يوسف باشا متصرف جبل لبنان.

 قابل الأمير شخصية روسية هي "كونت برانتيسبيسكي" وهو أحد الأثرياء الروس وأتى إلى بلاد الشام لغرضين أولهما: زيارة بيت المقدس والغرض الثاني شراء الخيول العربية الأصيلة، وفي أثناء إقامة الأمير محمد علي في بيروت سمع أن شاباً إنجليزياً يدعي أنه يعرف مناطق بلاد الشام ويتعشق الخيل وله غرام بالاقتناء، وطلب هذا الشاب مقابلة الأمير، فسمح له الأمير وسمع منه أخبار الخيل، وسأله أي المناطق توجد فيها الخيل الكريمة؟ فدله الشاب على دروز حوران وعرب رولة الذين يقنطون بالقرب من دمشق. فأعجب به الأمير وعلم أنه عثر على خبير عارف في موضوع الخيل والحصول عليها. وحاول الشاب الإنجليزي أن ينضم لحاشية الأمير ويسافر بمعيته إلى دمشق، لكن الأمير اعتذر له. ونرى الأمير يجمع الملاحظات عن أعداد الطوائف في بيروت ووضع المدارس وحالة المدينة الثقافية، ويخبرنا أن معظم الأهالي يجيدون القراءة والكتابة، وكذلك يذكر المطابع فيها مثل مطبعة الأميركان واليسوعيين، وعندما يزور الكلية الأميركية يختلف مع مدير الجامعة في حضور الصلاة الكنسية قبل التجول في الكلية.

يحكي الأمير محمد علي عن وصوله إلى دمشق، والاستقبال البارد من والي المدينة بحجة أن الرحلة غير رسمية، ومقابلته علي ابن الأمير عبد القادر الجزائري وسروره بالنقاش معه، ونزوله في فندق فيكتوريا في دمشق، ويشاركنا إعجابه بالمنازل الدمشقية ودقة صناعة الزخرفة فيها، وكذلك زيارته الأسواق. ولفت نظره أن حركة البيع والشراء متبادلة بين الشرقيين، وقلما وقعت عيناه على أوروبي يبيع أو يشتري أو يمر في هذا السوق، لكنه رأى في هذه الأسواق مجموعة من الكتاب العموميين أو "العرضحالجية" يجلسون في طول السوق، وحولهم زحام من أهل دمشق، إذ يستكتبونهم العروض والجوابات كما قد يشاهد في الشوارع القريبة من المحاكم الأهلية والأقسام في مصر، ويلاحظ الأمير أن من عادة التجار التي لاحظها في هذا البلد أنهم يشغلون أوقات فراغهم من حركة البيع والشراء بقراءة القرآن ومطالعة الكتب، أو بالتدخين في النارجيل.

يحكي الأمير محمد علي عن وصوله إلى دمشق، والاستقبال البارد من والي المدينة بحجة أن الرحلة غير رسمية، ومقابلته علي ابن الأمير عبد القادر الجزائري وسروره بالنقاش معه

يستمر الأمير محمد علي في السفر في مناطق سوريا، ويصل حمص ويقابل صديقه عبد الحميد باشا الدروبي، ويصف لنا المدينة والمزارات التي قام بزيارتها مثل جامع خالد بن الوليد وأسواق حمص، ويحكي عن شهرة حمص بالمنسوجات الحريرية، ثم ينتقل إلى حماة ويصف القرى والبلدات التي شاهدها مثل سرمين وخان تومان، ثم وصل حلب وقابل فخري باشا، ومدحه بالعبارات الطويلة بسبب حسن استقباله وكرم ضيافته. وفي حلب تصادف وجود ناظم باشا والي بغداد والموصل وديار بكر وتقابل معه الأمير محمد علي، وفي حلب يصف لنا قرقرة النارجيل عندما دخل على جمع من أعيان حلب وتم تقديم النرجيلة للجميع فتذكر قول الشاعر في النرجيلة: ولابسة من الياقوت تاجا / تقهقه كلما قبلت فاها. ويعلق قائلاً أن هذه القعقعة في سمع أرباب الكيوف ألذ من دقات الدفوف. وعندما يرى جواد ناظم باشا، إذا هو حصان أدهم جميل المنظر يشبه كل الشبه الحصان الأسود الذي أهداه الأمير محمد علي للسلطان عبد الحميد.

يتحرك محمد علي باشا في عالم من إدارة العثمانيين عام 1910 في عهد السلطان محمد رشاد، بعد عزل السلطان عبد الحميد ومع قدوم الاتحاد والترقي للحكم، وهاجسه الأساسي في كل خطوة هو عدم إغضاب السلطات العثمانية، فهو يعتذر للشاب الإنجليزي الذي طلب أن يكون في حاشيته لأنه ربما لا تحب الحكومة العثمانية أن ترى ضمن رفاق الرحلة شخصا إنجليزيا.

وعندما يصل إلى الفندق في دمشق يتم رفع راية العلم العثماني إعلانا بوصول الأمير، ويرى بارجة حربية عثمانية في ميناء بيروت، وكذلك عندما يجد فتوراً من الاستقبال الرسمي في دمشق ويتم إرسال مسؤول الأجانب لاستقباله يعبر منفعلا: "إني لست أجنبيا،  إنني من تلك البلاد؛ إذ هي بلاد الشرق، وأنا شرقي محض، وقد كنت أحسب أني عثماني تابع لدولة العثمانيين".

بل إن الأمير محمد علي عندما يجتمع حوله أعيان بيروت يفكر في أن يقوم بينهم خطيباً، لكنه لا يفعل مخافة من السلطة العثمانية الجديدة، فربما تتشوش من الخطبة، أو تتأولها بما يخالف غرض الخطيب ويبتعد عن قصده ومراميه. ويخطب كامل لوقا مفوض المسيحيين في حمص، محيياً الأمير قائلاً: "أتشرف بالنيابة عن أولئك العثمانيين لأحيِّي أميرا عثمانيا مصريا". ويتكرر الترحم على جده محمد علي باشا الكبير من الأعيان والمسؤولين في القطر السوري، يقف أحدهم ويقول له: "ليعش جلالة مولانا السلطان محمد رشاد، وليعش سمو الخديوي عباس المعظم، وليحيَ دولة البرنس محمد علي باشا والسلام".

لقد نقل لنا الأمير محمد علي صوراً من حياة المدن السورية وعادات أهلها، ولقد أراد لكتابه أن يكون مفيداً لمن يريد أن يعرف على وجه الإجمال ماذا كان تكوين ذلك الشعب الشامي الجليل، وما هي أحواله العمومية، أو أراد أن يفهم كيف كان شأن الأمير فيما بينهم من أول السفر إلى آخر خطوة خطاها في أرض تلك البلاد على حد تعبيره.