رئيس دولة نووية يستعين بخطاب ديني لمحاربة قيم العالم الغربي

2023.02.26 | 07:25 دمشق

رئيس دولة نووية يستعين بخطاب ديني لمحاربة قيم العالم الغربي
+A
حجم الخط
-A

من يستمع إلى خطابات الرئيس الروسي بوتين وهو يضمن خطاباته أبعاداً دينية سيتساءل: هل يعني بوتين ما يقول؟ أم أن الأمر لا يعدو ما كنا نراه في سوريا من خطابات تناصر الفلسطينيين فيما يعمل النظام كل أسلحة فتنته في منظماتهم؟ وكذلك كان النظام السياسي في سوريا يتحدث عن الوحدة العربية ولا يترك وسيلة لا يستعملها في إحداث سبل الخلاف بين تلك الدول.

هل هذا الخطاب الديني وسيلة لمزيد من الحشد لحربه التي لن يكون لها نهاية قريبة في أوكرانيا على ما يبدو، أو هو وسيلة لمنع تفتتات داخلية، أم أن الرئيس الروسي رجل مؤمن حقاً، وهو يخوض جزءاً من حروبه، ليس لمصلحة بلده فحسب، بل لدوافع دينية، قد تنقسم إلى نوعين: ثأر لخسائر قديمة، أو محافظة على الوضع الحالي والخوف من التفتت وشيوع قيم جديدة أقوى من القيم الدينية، طبعاً لن تفوتنا مباركة بابا الأرثوذكس للأسلحة التي ستقتل جزءاً من السوريين وكذلك زيارة بشار الأسد لكنيسته وحضوره لخطابات بوتين ومحاولات التقرب المتبادلة بين البابا وبوتين.

في نظرة سريعة للمشهد العالمي ومفهوم الدولة الحديثة يحسب الباحثون أن الفرصة لإعادة تأسيس دول على أرضية دينية ضعيفة جداً، لأن مفهوم الدولة الحديثة وقوانينها وأنظمتها يتنافى بصورة كبيرة مع وجود مرجعية أخرى تنافس الدولة ذات الأسس القانونية. بل إن دولاً تأسست على أسس دينية تعيد اليوم كتابة تاريخها لإعلاء الشأن السياسي على الديني. والمشهد العالمي برمته ينفر من كون الديني أساساً لدولة معاصرة، خاصة قد تكون الكثير من منظومات الدول ذات الطابع الديني مستمدة من مراحل الصراع الديني ونظرية: الغالب والمغلوب، وامتلاك الحقيقة واليقين، والآخر الخطأ.

يهجم بوتين على الغرب عبر فكرتين رئيسيتين بأرضية دينية هما: الشذوذ الجنسي، وتهديم قيم العائلة، متناسياً عن قصدية سياقاتهما وأسباب التحول وتهديم مركزية وجودهما

لسنا في وارد عرض تحولات الحرب في أوكرانيا وهل هي مستنقع غربي لبوتين أم أنها دفاعه عن قناعاته ورغبته بإعادة بعض أجزاء الاتحاد السوفييتي إلى أراضيه؟ أم أنها مناصرة لشعوب روسية تعيش في دول أخرى. على الرغم من تهافت تلك الفكرة وهشاشتها، وإلا فإنه يمكن إعادة تأسيس الدول على أسس قومية كذلك وليس على أسس حديثة، وهذا يعني إعادة رسم خرائط العالم، وهو مطلب غير منطقي أو مقبول أو من الممكن تحقيقه. غير أنه من المهم الإشارة إلى أن إشارات عدة تقول: إن الرجل حسب أن معركته هناك ستكون سريعة وخاطفة وناجحة ومحققة لأهدافها، بيد أن الغرب مع أميركا عدّ خسارته في تلك الحرب بداية لقضم أراضيه ومفاهيمه وقيمه وشركاته ووجوده ونجاحه الاقتصادي لذلك لن يسمح له بانتصار هناك مهما طال الأمر، وما وجود جو بايدن على الأرض الأوكرانية قبل أيام إلا إشارة بأن انتصارك العسكري يا سيد بوتين ممنوع، ممنوع ممنوع!.

يهجم بوتين على الغرب عبر فكرتين رئيسيتين بأرضية دينية هما: الشذوذ الجنسي، وتهديم قيم العائلة، متناسياً عن قصدية سياقاتهما وأسباب التحول وتهديم مركزية وجودهما، وهو يدرك في ذلك أنك لكي تخاطب شريحة كبرى تؤمن بك لا بدّ من أسس لتقويض صورة الآخر وخلق أسباب مقنعة لها، غير أن بوتين يدرك في أعماقه أن الأمر أبعد وأعقد من ذلك بكثير، وما هذا اللجوء إلى الجذور الدينية إلا في لون من ألوانه محاولة دفاع أخيرة عن وجود رمزي للمفهوم الروسي في الحياة (وريث السوفييتي) لم يعد ملائماً للعصر أو منظوماته.

السؤال: هل حقاً أن فكرة الشذوذ وتهديم العائلة عملية قصدية أم أنها نتيجة طبيعية لقيم دولة الرعاية الاجتماعية وإعلاء شأن الحرية الفردية، وكذلك تقويض مرجعية العائلة لجعل الدولة وقوانينها هي المرجعية، بل إنهما نتيجة فلسفة أخرى هي فلسفة الفردانية التي توجه قيم الحياة في أوروبا، وما محاولة حصر صورة أوروبا والعالم الغربي بهذين المعطيين إلا محاولة تشويه غير ناجحة لصورة كبيرة، لأن أوروبا قدمت الكثير للعالم بخاصة على صعيد الحرية والديمقراطية والفكر والتطور التقني، بالتأكيد لن تناسب كل قيمها المجتمعات المحلية في العالم كافة،  ويمكن لتلك المجتمعات أن تضع ضوابطها الخاصة لكن بالتأكيد ليست تلك القائمة على القمع والمنع والظلم وإخماد أصوات المستضعفين.

مشكلة بوتين الرئيسية في خطاباته أنه لا يقدم نموذجاً معاصراً وموازياً للمنظومة الغربية القائمة على الفردانية، بحيث يمكنه تحقيق أهدافه، بل يقدم نموذجاً رثاً من خلطة بشعة من الاستبداد ودعم الظلم والدخول في حروب عسكرية ودعم الطغاة والعودة على الماضوية، مع ما يقدمه من محاولات إخراج ديني بإضاءة وديكور فاشلين، ولن يفيده الانسحاب العسكري الغربي من أفريقيا مثلاً ليكون هو البديل بغطاء ديني في محاولته الإفادة من الأرثوذكسية ونشرها في أفريقيا لتكون أرضية لانتشاره العسكري.

وما لجوء بوتين إلى ذلك الخطاب المتهالك إلا نوع من المعرفة العميقة أنه يحاول تقديم نموذج فات زمانه، وهو تعبير عن فشل ذريع في البقاء حياً وسط تلك الموجات العالمية. وحين وعى ذلك جيداً وجد أن الحل لا يكون إلا بافتعال حرب عسكرية بحجج واهية في جغرافية مجاورة تشكل جسراً بينه وبين أوروبا الغربية، في وقت حسب العالم أن الصراع العسكري بين القوى الكبرى صار من الماضي، لذلك تخوض الصين حرباً يومية اقتصادية وتقنية مع أميركا، غير أنهما، بنوع من التوقع المتفائل، لن يقدما على حرب عسكرية، ليس كرهاً في العسكرة بل لأنها غير مجدية ولن يكون هناك منتصر بها، خاصة أن المختصين في علم الحرب يرون أن زمانها قد فات بين القوى الكبرى ولم تعد مجدية ولن يكون هناك منتصر بها.

السؤال: هل يحتاج رئيس دولة نووية إلى الخطاب الديني كي ينتصر على خصمه؟ ألا يكفيه السلاح النووي الذي بات يهدد به كلما مُني بفشل عسكري، وما انسحابه مؤخراً من اتفاقية نيوستارت حول الرؤوس النووية الموجهة إلى الآخر إلا مزيد من التعبير عن الخسائر العسكرية على الأرض والفشل في معركته مجدداً.

في كل حرب عسكرية يقوم فريق من الخبراء السياسيين والاستراتيجيين والمفكرين بالتحضير لها والبحث عن الأسباب والخطاب الذي يمكن توجيهه إلى شعب الدولة ذاتها والعالم والخصم والإعلام، وقد كان مثل هذا الخطاب في حروب قديمة لا يحتاج إلى الكثير من التكاليف، وغالباً تكون سردية المنتصر هي التي يتم تكريسها، لأنها كانت تمسك بالإعلام غير أنه في الإعلام الحديث والمرحلة الرقمية المعاصرة بات ذلك شبه مستحيل، وعلى الأنظمة الراغبة بالدخول في صراعات عسكرية أن تعيد حساباتها، يمكن أن نذكر مثالاً سورياً على ذلك، مثلما فعل حافظ الأسد إبان مجزرة حماة أو تدمر. ومهما كانت الحفريات الأنثرولوجية مهمة إلا أنها تبقى حفريات في تاريخ. وهو ما لم يتهيأ لابنه الذي استعمل أدوات خطاب أبيه، إبان محاولته قمع ثورة عام 2011 في سوريا، التي وإن كان انتصر عسكرياً في جوانب كثيرة منها إلا أن توثيق الأسلحة الكيماوية وصور قيصر ومئات الآلاف من الفيديوهات والوثائق ستمنع بصورة أو بأخرى أي تعامل سلس أو أريحي مع النظام السوري مهما اقتضت مصالح العالم أو الدول.

خطاب الرئيس الروسي الذي يمتلئ بمعجم قمعي وعسكري مع "رشات ملح دينية" لن يقنع إلا مناصريه، الذين يرون أنه نموذجهم الأفضل

تهافتُ الخطاب الروسي في حربه التي حسب أنها سريعة وخاطفة ومحققة لأهدافها يشير إلى أن الرئيس الروسي حين اتخذ قراره لم يكن يحسب تلك الحسابات أو أنها حسابات رجل المخابرات حين يهجم على ضحيته، حيث لا يقبل في نهاية الأمر إلا بضحية معفرة بالدم، مصابة بالإغماء، عندها سيشرب "كأس الفودكا" وقد أشبع شعوره بالانتصار على الخصم.

خطاب الرئيس الروسي الذي يمتلئ بمعجم قمعي وعسكري مع "رشات ملح دينية" لن يقنع إلا مناصريه، الذين يرون أنه نموذجهم الأفضل، أما بقية العالم فلن تكترث بهذا الخطاب لسبب بسيط أنه لا يقدم نموذجاً منافساً من جهة أخلاقية أو قيمية أو استهلاكية أو خدمية أو معرفية أو تقنية أو رقمية أو فكرية، وما تلطيه خلف الديني إلا عنوان فشل كبير، هذه المرة ليس عسكرياً فحسب بل فشل في تسويق المعركة والانتصار على الآخر.

بالتأكيد لن يكون بديلاً لـ "باكيت دولة الحرية الفردية والفردانية والثورة الرقمية" دولة أو نموذج قمعي، عسكري يقوم على المنع والعودة إلى الوراء والتقشف الاقتصادي لعامة الشعب مقابل ثراء طبقة الحاكمين أو المناصرين.

صار من الصعب على العالم أن يقبل، آجلاً أم عاجلاً، بعنصر مخابرات أن يحكمه بالمفاهيم السابقة للمخابرات، غير أن جزءاً من العالم يمكن أن يقبل بحكمه بشرط واحد: أن يتحول عنصر المخابرات هذا من مالك للقوة وموجه لها إلى خادم لحاجات الشعب ومطور لها ومتنبه للمستقبل وبان لعلاقات سليمة مع الدول الأخرى، وهو يشبه فقدان الروح بالنسبة لرجل المخابرات، عندها يفضِّلُ أن يطلق على نفسه رصاصة ولا يقبل أن يكون دون مخالب أو أسنان.