رأس السَّنة 2020... عامُنا أم وعيُنا المقلوب؟

2020.12.31 | 23:07 دمشق

hzr_tjwl_fy_trkya_2.jpg
+A
حجم الخط
-A

تنافسَ أدباء وكتّاب ورسّامون في السخرية من عام 2020 على أنه عام الوباء وتعطّل المصالح وموت الأعلام!

وحيث إنَّ المراجعات وجرد الحسابات لا بد منها سليماً كان عامنا أم مقلوباً فلابد من الاعتراف أن كثيراً من أمورنا كانت مقلوبةً، فجاء عامٌ شديدٌ قلبَها علينا؛ لكنها في الحقيقة رجعت إلى أصلها أو قريباً منه.

يعزّ أن تجد مَن لا يعترف أنه قبل "كورونا" كان مقصّراً تجاه أسرته؛ لكنّه بالحجر والإكراه رجع فوجد نفسه وجهاً لوجهٍ أمام أسرته التي خطفَه منها العمل والعلاقات ومتاهات الدنيا التي لا تنتهي ولا تلتقي عند نقطة.

ومن لومِ المدارس وسَلْقِ المعلّمين والمعلّمات بألسنةٍ حِداد انتقل الناس للترحُّم عليها وعليهم؛ لا لشيء إلا لأنهم حُبسوا مع أبنائهم في البيوت، وهذا كذلك من الوعي المقلوب؛ فالبيوت هي المدارس الأولى ولذا سمّوا المدرسة "البيت الثاني"، لكنّ البيوت عامة خرجت عن مهمتها في التربية والتعليم وألقتها بكاملها على المدرسة، حتى كان العام الذي حسبناه مقلوباً فعدّل الكفّة وعرف الناس للمدرسة قيمتها وللمعلّمين جهادهم مع أبنائهم؛ وأرجو أن يكونوا وعَوا أهمية المدرسة المنزلية في بناء الأبناء والبنات.

وعلى قَدْر العلم يكون التكليف؛ فالعذر الملموس لعامة الناس في التقصير مع أبنائهم في التعليم المنزلي لا يكون لجملة المتعلمين والمثقفين، فقلّةٌ قليلةٌ أو لعلها زمرة نادرة منهم ممن له برنامج تعليمي تثقيفي تربوي مع أبنائه، ولا أكشف سرّاً أنَّ تميُّز كثير من أبناء المتعلمين والمثقفين إنما هو بفضل ما يقدرون عليه من الدروس الخاصة عند معلمين آخرين لأبنائهم وبناتهم، ولعل الواحد منهم بين الشاشات والاجتماعات والندوات وإن كانت افتراضية؛ فينصرف شيوخ وعلماء ومثقفون لبناء الأبناء وهم في غفلة عن أبنائهم الذين من أصلابهم، فهل عامنا المقلوب أم وعينا؟

وكما أن المآذن وصفحات التواصل لا تهدأ بالنعي وإعلان الوفيات فرؤوسنا تتصدّع يومياً بأخبار الطلاق والخُلع؛ وكأنّ كثيراً من الأزواج كانوا منفصلين واضطروا للاجتماع تحت سقف واحد بسبب الوباء وتعطّل الأعمال الخارجية، ولأكوامٍ من الأسباب عند الطرفَين وقعت صدامات كأنما هي جيوش زحفت نحو بعض واشتبكت؛ فليس على عامنا إلا أنه كشفَ المخبوء وفضحَ المستور المقلوب من الوعي للبيوت وللعلاقات الأسرية، وإذ بها قد وصلت آخر الطريق وأُغلقت خيارات الإصلاح، فانتهت بطلاق هنا وخُلع هناك، والأولاد في كل الحالات انتهوا في طرق الضياع وبين أنياب الذئاب البشرية. والأشدّ مرارةً أنه مع انفراط العقد الاجتماعي غدت مؤثرات الصحبة والأهل في غالب أحوالها سلبية؛ فالزوجة لها عصبة نسوية تنشر على صفحاتها الزرقاء والحمراء ما يقع على زميلتهن "المعنَّفة"، ويرفعن الأقداح انتصاراً واحتفالاً بطلاقها وانضمامها إلى العصبة! وأصحاب الزوج يدفعونه إلى طلاقها ورميها؛ فإن "ألفَ فتاةٍ بِكر وثيّب تتمنّاك"، ولا يزالون يحرّضونه حتى يطلق الرصاصة على أسرته ويدمّر حياته. ومثل ذلك أهل الطرفَين؛ فهؤلاء ينفخون فيه "الرجولة" ليربّيها، وأولئك ينفثون فيها روح التحدّي لإثبات أفضلية "الأنوثة" وسلطتها التي تنادي بها كل المنظمات الحقوقية والإنسانية!

فأين الوعي السليم لأهمية السكَن، ولا أعني الـمَسكن، بل السَّكِينة التي شُرع الزواج وسيلة إليها، فلما انتفت تعطلت مؤسسة الزواج وقرّر الشركاء إعلان إفلاسها وانهيارها، دون وعي كافٍ لخطورة أحوال المنتسبين إلى هذه المؤسسة من الأبناء والبنات؛ فهم الخاسر الحقيقي، لاسيما مع انصراف أصحاب المؤسسة (الوالدين) في أغلب الأحيان إلى افتتاح شركات أخرى بزواج قد لا يكون إلا لغسيل الأموال وادعّاء النجاح أمام الطرف الآخر الخصم شريك الأمس!

وفي حياتنا الاجتماعية المقلوبة على نحو ما نرى شاشات أعداد الإصابات والأخبار المحلية والدولية المباشرة نجد السيدة تتابع ما يُعرض في تطبيقات وصفحات التسوّق من الجديد والمستعمل بسبب إغلاق المحلات والحجر، مع متابعتها الطرائف والنُّكت وجديد فلانة مع زوجها وسواليف فلانة مع كنّتها ومعاركها مع حماتها؛ لكنّها لا تجد وقتاً بسبب ظروف الحَجر والإرهاق من الوباء لمتابعة ختمة رمضان الفائت، ولا للنظر فيما بين أيدي أبنائها وبناتها من ألعاب وتطبيقات ورسائل ينشغلون بها بحجة الدراسة!

.... وأمّا حياتنا الثقافية فلا مقلوبَ فيها؛ إلا ما تزاحمت بعناوينه الصفحات من مقالات وكتب عن العُزلة والوحدة، وكأنّ مَن يُصدرها معتكفٌ في كهف وحملتْ إلينا الأشباح ما أنتجه! فالوعي المقلوب يُخيّل أنها عُزلة؛ وإنما هو انتقال من الاختلاط والاحتكاك الفيزيائي إلى الجو الافتراضي، فالاجتماعات من الطاولات إلى الشاشات، والأمسيات والندوات من القاعات إلى التطبيقات، وتحيات الصباح والمساء والمناسبات اليومية والاجتماعية صارت على حالات واتساب وفيسبوك وتوتير وإنستغرام، حتى إنك ترصد في اليوم القصير للواحد في منشورات في كل تلك الوسائل مع أنه في "عُزلة"! ولعل الواحد منّا بحاجة حقاً للعزلة التي يُكتب ويُحكى عنها؛ لكنها حقيقة لا افتراض غير دقيق، فنحن نكتب عن شيء نحبّه ونرجوه منها، وعن شيء نحن بحاجة إليه بعيداً عن ضجيج الاختلاط الاجتماعي وفوضى التواصل والعلاقات.

ومن سلامة حياتنا الثقافية من الانقلاب عودةُ كثيرين لأعمال ومشاريع علمية تُركت جانباً دون إغلاق، فعكف أصحابها عليها حتى أنجزوها؛ فبعض المثقفين تمكث عنده القطعة من العمل أكثر مما جاء عن زهير فيما عُرف عنه بـ "الحَوليّات"، وهي أنه كان لا يُخرج القصيدة حتى يدور عليها حَولٌ (عامٌ) كامل. وآخرون ينطبق عليهم "حاطب ليل" فيُرهق الناس بالإصدارات والمواليد، فلو أنهم جوّدوا فيها بسبب تعطّل سوق الكتب؛ وإلا فأيُّ انقلاب أكبر من أن يُصدر أكاديمي برتبة أستاذ "بروفيسور" كتاباً بغلاف أنيق وإخراج مميز وفي السطر الأول من مقدّمته خطأ من رتبة "فاحش"! أو أن تُصدر أديبة عملاً روائياً في غلافه الخلفي خطأ لا يليق بلغةٍ ولا أدبٍ! فضلاً عن عمليات السطو على أعمال الطلاب والأخفياء وادّعائها للنفس؛ حتى إنها تجاوزت بكثير ما سمّاه القدماء "سرقات أدبية"!

ولا يبعد عن ذاك الوعي المقلوب إمساك كثير من متصدّري الحياة الثقافية والسياسية والاجتماعية عن النشر وتوثيق الأحداث التي يطّلعون عليه، بل يُؤتمنون عليها وهم مسؤولون عنها أمام الناس ثم في الموقف الأكبر بحجّة ازدحام جداول الأعمال بالمهام وضيق الوقت بمستجدات الوباء وأعبائه؛ فإنْ صدرَ كلامٌ عن أحد ممن يرونهم "دونهم" - ولو كان منشور فيسبوك - وجد الصحة والفراغ للرد عليه بما يعدل ورقة بحثية؛ فهذا مما جرى وله نماذج كثيرة عن "قادة وكبار" في عامنا المقلوب!

وصارت المفضلة في حساباتنا تزدحم بالوصفات الطبية وفوائد الليمون والزنجبيل وأضرار التدخين ومخاطر السُّمنة وقلّة الحركة؛ وكأن الأطباء قبل كورونا كانوا لا يرون في التدخين بأساً وينصحون بالسُّمنة وتخفيف الحركة! لكنّ الواقع شهد بما عاناه فلان عند إصابته بسبب وزنه الزائد، وما عانته فلانة من شدة الوباء عليها التدخين للمزاج والهروب من القهر و"الكبت الزوجي" والاجتماعي!

ويرحم الله الشافعي كم كان دقيقاً في قوله:

نَعيبُ زَمانَنا وَالعَيبُ فينا              وَما لِزَمانِنا عَيبٌ سِوَانا

وَنَهجو ذا الزَمانَ بِغَيرِ ذَنبٍ               وَلَو نَطَقَ الزَمانُ لَنا هَجَانا

وَلَيسَ الذِّئبُ يَأكُلُ لَحمَ ذِئبٍ       وَيَأكُلُ بَعضُنا بَعضاً عَيَانا

..... وبعدُ فما هذه إلا أمثلة يسيرة عن انقلاب الوعي لدينا في حياتنا الاجتماعية والثقافية في عامنا الحزين 2020؛ دون الدخول في حياتنا السياسية فإنها حاشاها من الاستواء والاستقامة، فهي كلها قلبٌ وإعلالٌ وإبدالٌ ومنعُ مصروفٍ وصرفُ ممنوعٍ من الصرف!

فالحقّ أن علينا التدقيق أكثر فيما نمرّ به، وأن نرصده كما تُرصد حالات الوباء؛ وليس الرصد إلا للمعالجة، فلا استمرار وحياتنا تمشي على رأسها؛ ألا ننظر تزاحم الشركات والدول ومنافستها على لقاحات أليست حياتنا أَولى بالمنافسة في إيجاد الأدوية لما يخرّب استقامتها ويُفسد جمالها من الأدواء والأوبئة الاجتماعية والثقافية؟

فلا نرجم بالغيب إنْ زعمنا أنَّ عامَنا القادم سيأتينا بأشدّ مما انتهى به عامنا هذا؛ إلا أن نصحّح ونستدرك، ونستقبل عامنا الجديد بغير الاحتفالات؛ فما يستحق الاحتفاء والاحتفال هو حياة مستقيمة بوعي صحيح لا بوعي وفهم مقلوب!

فكل عام وحياتنا أجمل، وكل عام وحياتنا أفضل؛ وكل عام ونحن وأنتم بخير.

كلمات مفتاحية