ذوات المثقفين المنتفخة.. لمن تكتبون؟!

2023.05.17 | 05:11 دمشق

ذوات المثقفين المنتفخة.. لمن تكتبون؟؟!!
+A
حجم الخط
-A

ليس هناك قيمة أعلى من الحياة الإنسانية، وليس للثقافة دور أجلّ من اشتغالها على إعلاء هذه القيمة، أما من يهدرون هذه القيمة فهم كُثر، وإن كان الطغاة والساعون إلى الثروة وغيرهم في مقدمة من يتم ذكرهم عند الحديث عن هذه القيمة، فإن الأخطر منهم هم المثقفون الذين يتواطؤون عليها، ويصمتون عن سحقها، ويجبنون عن مواجهة أعدائها، وهم بموقفهم هذا إنما يخونون جوهر الثقافة أولاً، ويخونون  الوجه الإنساني للحياة ثانياً، وهدرهم لهذه القيمة متعدد الأوجه، فهو لاينحصر بإعلاء شأن الطغاة، أو الدفاع عنهم والضرب بسيف ظلمهم، بل يكون أيضاً بطرق متعددة أخرى، لا تبدأ بصمتهم أو بتأجير معرفتهم، ولا تنتهي بتضليلهم للناس وبيعهم الأكاذيب والوهم.

عندما يصمت مثقف عن قول كلمة صادقة، تقتضيها اللحظة الفاجعة في تاريخ مجتمعه ووطنه، فإنه بصمته هذا يقول شيئاً آخر، فالصمت هنا رأي صريح، وهو صمت له ثمن، وثمنه دم وحياة ومستقبل، وإن كان يظن أنه بصمته إنما يتجنب المشاركة في دفع هذا الثمن فبئس الثقافة إذاً.

في مواجهة الثمن المقابل لإعلاء قيمة الحياة والدفاع عنها، يهرب المثقفون للاختباء تحت راية الحياد، وهي راية يرفعها الكثير من المثقفين العرب، الذين دمرت بلدانهم ولاذوا بالصمت، وكانوا يتفرجون كيف تنهار هذه البلدان، هذه الذريعة أشبه بالعار، فالحياد أمام القيمة الأهم والأغلى – قيمة الحياة الإنسانية – هو محاولة ممجوجة للنجاة بالنفس، ووصف ثقافتهم بأنها ثقافة متكسبة أو مأجورة أو هاربة، وأنها ثقافة الجبناء المهزومين هو أكثر التعابير تهذيباً.

يمكن القول: إن الثقافة العربية – بمعظمها - منذ قرون طويلة لم تعد ثقافة، هي مهنة للتكسُّب، كأي مهنة أخرى، والطبقة الثقافية تشبة طبقة التجار باختلاف موضوع تجارتهم

دفعني لما كتبت هي تلك المعارك التي تنشب كلما رحل "مثقف" عربي، أو تم تناول اسمه لسبب ما، والتي يتجاهلها المثقفون ويترفعون عنها، بحجة أنها لا تنسجم مع معنى الثقافة، أو دورها، والغريب أن من ينتهك الثقافة أولاً، ويفرغها من معناها أو دورها هو المثقف ذاته، لكنه ولأنه من الطبقة المثقفة المباركة، فإن من حقه أن يفصّل ويفعل بها ما يشاء، وليس من حق من يطلق "المثقفون" عليهم صفة "العامة"، حتى أن يعبّروا عن احتقارهم لمن أدار ظهره لهم، أو ضلّلهم، أو تاجر بهم.

ببساطة يمكن القول: إن الثقافة العربية – بمعظمها - منذ قرون طويلة لم تعد ثقافة، هي مهنة للتكسُّب، كأي مهنة أخرى، والطبقة الثقافية تشبة طبقة التجار باختلاف موضوع تجارتهم، ولم تعد – الثقافة – أداة التغيير، أو البحث عما يرتقي بمجتمعاتنا ويعلي من إنسانيتها، ويؤسّس لمستقبلها، وها هو تاريخنا وحاضرنا بين أيدينا، فهل هناك من دور لعبه المثقفون في حياة شعوبنا، وهل هناك مشروع عربي أو مشروع لأي دولة عربية منفردة صنعه المثقفون، وهل يكفي اجترار معيقات قيام هذه المشاريع لكي نبرر ونغفر لمثقفينا؟

المشكلة ليست في الطغيان على تعدُّد أنواعه، ولا في السائد المتخلّف، وما إلى كل ذلك من مفردات يطيب للثقافة الجبانة المرتزقة ذكره، فما هو موجود في مجتمعاتنا كان موجوداً في المجتمعات الأخرى، واستطاع المثقفون في تلك المجتمعات أن ينهضوا بها، وأن يحاربوا من أجل قيمة الحياة العليا، المشكلة الأهم هي في مثقفينا، في فهمهم للثقافة ودورها أولاً، وفي نظرتهم لذاتهم وللآخرين ثانياً.

لم يطلق الكاتب التركي "عزيز نيسين" صرخته "آه منا نحن المثقفين الجبناء" اعتباطاً، ولا حباً في الاستعراض، ولم يكتب "إدوارد سعيد" عن خيانة المثقفين من باب المثاقفة أو الاستعلاء أو حب الظهور، بل كانت صرختهما تعبيراً عن حقيقة فاجعة، وهي استقالة المثقفين من وظيفتهم الأساسية، وانتقال الثقافة من حقلها الأساسي إلى حقل التكسب والتزلُف والاستتباع.

لم تعد وظيفة الثقافة ودورها مرجعية معظم مثقفينا، ولم يعد واقع مجتمعاتنا وبؤسها وانهيارها شغلهم الشاغل، بل أصبح التشاوف، والتباهي بامتلاك ثقافة الآخرين، والبحث عن شهادة الآخرين بهم، ومديحهم لهم هو معيار النجاح، وبانتظار جوائزهم يمكن لمثقفينا أن يخرجوا من جلودهم، وأن يردّدوا بلا أي تردد ما تريده هذه الجهات، حتى لو كان على أشلاء مجتمعاتهم ومصيرها.

السمة العامة لمثقفي هذه البلدان هي أنهم يحملون ذوات منتفخة، تتوهم عظمة زائفة، وتتجاهل أنها السبب الرئيسي في انفضاض الناس عنهم

وكما لا يمكن لثقافة جبانة، أو مقلدِة، أو متكسبة أو محايدة أن تؤدي دورها، وكما لا يمكن لثقافة رمادية أن تسهم في تطوير مجتمعاتها، فإنّه لا يمكن لمثقف جبان أو مقلّد أو متكسب أن ينتج ثقافة، ليس الأمر أحجية، ولا اتهاماً اعتباطياً جائراً، إنه ببساطة شديدة واقع معاش يمكن تلمسه مئات المرات يومياً في كل تفاصيل هذه المأساة التي تبتلعنا منذ قرون.

في عزلة المثقفين عن مجتمعاتهم، وفي ابتعاد الناس عنهم، هناك سبب آخر غير ما يتم قوله دائماً عن تخلف المجتمعات، وجهلها وعدم اهتمامها بالقراءة وانغماسها في ثقافات قديمة، وهو أن السمة العامة لمثقفي هذه البلدان هي أنهم يحملون ذوات منتفخة، تتوهم عظمة زائفة، وتتجاهل أنها السبب الرئيسي في انفضاض الناس عنهم، وعن القراءة، وفي انعدام الثقة بينهم، هذا لا يلغي أن هناك أسباباً أخرى متعددة، لكن هذا يؤكّد أن المثقفون المنهزمون هم من أسسوا لهذا الافتراق بينهم وبين مجتمعاتهم.

يبقى السؤال الأخير في كل هذا المشهد المحزن، والذي لا يطرحه المثقفون على أنفسهم أبداً، وهو لمن يكتب هؤلاء المثقفون؟

لا أحد يجيب، ولا أحد يريد الإجابة، ففي الجواب تكمن الحقيقة، وتكمن الفاجعة.