ذهنية المنع لدى الخلاف والاختلاف

2021.06.30 | 06:10 دمشق

zh9.jpg
+A
حجم الخط
-A

كثر من السوريين (كاتبة هذه السطور منهم)، لم يعجبهم ما قاله المحامي هيثم المالح في مقابلته على تلفزيون سوريا في برنامج (الذاكرة السورية)، وكثر اعتبروا كلامه عن رزان زيتونة مسيء لها، وتم انتقاد ما قاله في أكثر من مقال، كان معظمها على موقع تلفزيون سوريا، وهو أمر يحسب للموقع، حسنا، قال هيثم المالح ما قاله، ليس من الحق بشيء منع أحد من قول ما يشاء، المالح أو غيره، بل لعله من خلال تصريحات وأقوال مشابهة، يمكن فهم وكشف الثغرات والفجوات في جزء كبير من مجتمع الانتلجنسيا السوري.

الكل ساهم بما حدث، ليس عن رغبة بالخراب، مبدئيا، بل نتيجة انعدام الخبرة في العمل العام، ونتيجة عدم القدرة على التخلص من أثر الاستبداد الطويل

تلك الفجوات التي خرجت منها الثورة المضادة التي قضت على أحلام السوريين، ودمرت الثورة يدا بيد مع النظام، إذ إن كل من يتجاهل دور معظم الانتلجنسيا في ما حصل يحتاج للعودة إلى بدايات الثورة وما تلاها، وحين نحكي عن الانتلجنسا السورية، فإننا نقصد يسارييها ويمينييها وليبرالييها، لا أحد منهم يمكنه ادعاء التطهر مما حدث، وفي الحقيقة لا أحد في سوريا ممن انخرط بالشأن العام بعد 2011، على كل المستويات، السياسية والاقتصادية والعسكرية والفكرية والثقافية والتنموية يمكنه ادعاء التطهر، الكل ساهم بما حدث، ليس عن رغبة بالخراب، مبدئيا، بل نتيجة انعدام الخبرة في العمل العام، ونتيجة عدم القدرة على التخلص من أثر الاستبداد الطويل، بكل التعقيدات التي سببها للمجتمع السوري، بكل فئاته، وهو ما دل عليه الانقسام المريع بعد الثورة، والخطاب الموجه للسوريين سواء من قبل المعارضة أو من قبل النظام، لم يكن هناك خطاب وطني حقيقي جامع، كان دائما هناك نفس استعلائي وفئوي ومقسم ومزايد بالوطنية أو بالثورية، خطاب دفعت سوريا والسوريون أثمانا باهظة جدا بسببه، وربما تحتاج معجزة لإنقاذ ما تم تهشيمه على جميع المستويات، إعادة إعمار البنيان ليس سوى الجزء الأسهل منه.

من هنا كان مستغربا لي المطالبات التي طالب بها السوريون على وسائل التواصل إدارة تلفزيون سوريا بحذف الحلقة إياها مع المحامي هيثم المالح من أرشيف البرنامج، أو تلك المنشورات التي كتبت تطالب معدي البرنامج بالاعتذار من الجماهير السورية! أعترف لكم شعرت وأنا أقرأ الكثير مما كتب على صفحات وسائل التواصل بنوع من الكوميديا، فما معنى اعتذار معدي برنامج عما قاله ضيف من ضيوفهم، وفي آلية العمل الصحفي والإعلامي، في كل العالم، أن برامجا كهذه تخرج من الضيف أسوأ ما فيه وأحلى ما فيه، وتخرج أسراره إلى العلن إن كان المعدون قادرين على ذلك، هذا جزء من مهنة العمل الإعلامي والبرامج التي من هذا النوع والتي تشبه برامج (التوك شو)، لولا أن برنامج (الذاكرة السورية) أكثر جدية من برامج التوك شو المعتادة، و(التوك شو) في الحلقات إياها فعله الضيف بشكل عفوي، دون بذل أي جهد كشف الضيف عن شخصية كان لا بد للسوريين أن يعرفوها جيدا، وليت كل من يستضاف من المعارضة السورية، يتكلم بتلك الطريقة، فهو ما سوف يشكل الذاكرة المستقبلية عن الثورة للأجيال القادمة، وهو ما جعلني ألوم نفسي أنني كتبت عن ضرورة ابتعاد المالح وغيره عن الذاكرة السورية، بينما هناك ضرورة لتوثيق آلية تفكيرهم وذهنيتهم، لا لشيء سوى لتتفادى أجيال الثورة القادمة هذا الخطاب وتلك الذهنية.

لا أعرف حقا كيف يمكن لأحد المطالبة بمنع أحد من قول ما يريد، لنقل ما نرغب بقوله وليعارضنا من يريد الاعتراض

والحال، إن أحد أهداف الربيع العربي، في سوريا تحديدا، هو السماح بحرية الرأي والقول، بعد عقود من القمع والمنع، فكان مستغربا فعلا المطالبة بوقف البرنامج أو منع الحلقة من البث، أو حذفها من الأرشيف، أو نظريات المؤامرة، التي يبرع فيها السوريون كثيرا، عن أن معدي البرنامج فعلوا ذلك عامدين للإساءة لرزان زيتونة، أو أن هدف إدارة التلفزيون هو تخريب الثورة السورية (كما لو أن الثورة السورية سليمة ومعافاة ومنتصرة وهذه القناة هي من سيدمر كل ذلك النجاح)، لا أعرف حقا كيف يمكن لأحد المطالبة بمنع أحد من قول ما يريد، لنقل ما نرغب بقوله وليعارضنا من يريد الاعتراض، هذه بديهة من بديهيات الحلم الديموقراطي الذي حلمنا به، أما المنع فهو ليس سوى إعادة إنتاج لذهنية الاستبداد التي ندعي محاربتها، ولا يخفى أن لدى البعض أو الكثر اعتراضاتهم على تلفزيون سوريا بحد ذاته، وقد يكونوا محقين أو غير محقين، لست هنا في وارد هذا ولا وارد الدفاع لا عن التلفزيون ولا عن معارضيه، وإنما يمكنني الحديث عن كل الوسائل الإعلامية التي انشغلت بالثورة السورية، كلها دون استثناء، هل هناك أي وسيلة منها امتلكت خطابا وطنيا صرفا ليس مرتبطا بممول أو داعم؟ هل هناك أي وسيلة إعلامية من كل تلك الوسائل لم تساهم في خلافات المعارضة وتشتيت جهودها، وتقسيمها وتخوين بعضها البعض؟ هل من وسيلة منها لم يكن فيها كاتب مختص بانتقاد كتاب ومثقفين مع الثورة لمجرد أن رأيهم يخالف رأيه، أو أحيانا لمجرد خلافات شخصية؟

ذات يوم انتقدني كاتب سوري في جريدة عربية عريقة وجرح بي كثيرا، ولا أخفي كم انزعاجي وغضبي يومها، خصوصا أن المقال نشر وأنا في مرحلة صحية حرجة جدا، وفجأة يصلني بيان موقع من سوريين عدة موجها إلى إدارة الجريدة، تضامنا معي، ويطالب إدارة الجريدة بمنع الكاتب إياه من الكتابة مجددا، طبعا رفضت التوقيع وطالبت الأصدقاء أصحاب النية الحسنة (مازالوا يذكرون ذلك)، بإلغاء هذا البيان المعيب، فهو مخالف لكل ما قامت الثورة لأجله، لينتقدني من يشاء وليشتمني من يشاء، فكل ما نفعله حاليا، بعد فشل الثورة، هو التدريب على قبول الرأي المخالف ومحاولة الرد عليه ومعارضته، كلاما في كلام، أما المنع والقمع فهو ليس سوى إعادة إنتاج لعقلية نريد جميعنا التخلص منها.