ذاكرة مدينة: في مقمرة أبي رسول

2020.05.23 | 00:18 دمشق

24955475_1934614436553454_1757323043361009109_o-780x500.jpg
+A
حجم الخط
-A

أبو رسول هو البقال الثاني في حارة التلة. على عكس أبو بدر لا يوجد في دكانته أشياء كثيرة للبيع. هناك بسكويت وشوكولاتة رخيصة ومصاصات. الهدف من بضاعته ليس البيع بل القمار. كان الأولاد والفتيان يجتمعون في دكانته الصغيرة، في فصل الشتاء خاصة، وفي جيبهم فرنكات قليلة، يشترون بها بعض البسكويت والشوكولاتة وحلوى جوز الهند المغلّفة بورق السلوفان، ثمّ يقامرون بما يشترون، يلعبون "الطرة أم النقش"، أو "التلزيق". والتلزيق هو أن نضع قطعتي شوكولاتة، واحدة في كل يد، (واحدة للاعب والأخرى للاعب الآخر) ونضع تحت إحدى القطعتين فرنكا، ونضم اليدين. على الطرف الآخر أن يلمس إحدى اليديين فإذا كانت قطعة النقود تحتها أخذ القطعتين، وإذا كانت تحت القطعة الأخرى احتفظ اللاعب الأول بالقطعتين. لعبة قمار أخرى كانت برمي قطعة البسكويت أو الحلوى باتجاه حائط ما، وصاحب القطعة الأقرب إلى الحائط يربح القطع الأخرى جميعها. في نهاية اليوم ثمة من يربح وثمة من يخسر. ماذا يفعل الرابح بكل الحلوى؟ يأكل بعضها ويبيع الباقي لأبي رسول بنصف قيمتها.

أغرب من ذلك المقامرة بزجاجات المياه الغازية. تمسك بالزجاجة وتخضّها قليلا، ثمّ تثبتها بيد على الأرض، وتفتحها بفتّاحة الزجاجات بسرعة وقوّة، حتى يرتفع السائل داخلها، فإن فاض على حواف الزجاجة ربحتَ وكانت الزجاجة من نصيبك، وإن وصل إلى الحافة فما دونها خسرت، وكانت الزجاجة من نصيب الخصم. المشكلة أنك لا تستطيع أن تشرب أكثر من زجاجة أو اثنتين، فماذا تفعل بالباقي لو ربحت خمسا أو عشرا؟ لا يمكن أن تبيعها من جديد لأبي رسول، ولا يمكن أن تحتفظ بها لتشربها لاحقا.

ثم يمكن المقامرة – طبعا – بالدَحَل الملوّنة أو بنوى المشمش. والأخيرة بشكل خاص لم تكن تروق للصبي، لأن الرابح لا يستطيع أن يفعل شيئا بنوى المشمش، فهي لا تؤكل، ولا تحب الأمّهات أن يخزنّها في البيت. الدَحل الزجاجية الملوّنة لطيفة المنظر، وبرّاقة، ويمكن لمن يكسب مئات منها أن يتباهى بها على أقرانه فعلا.

ومع ذلك لم يكن الصغير ماهرا في القمار. كان يخسر أكثر مما يربح بكثير. وسيجد نفسه ذات يوم في ورطة كبيرة ستحرمه النوم لزمن. كان أبو رسول يتساهل في البيع بالديَّن، وهو يعرف أنه سيستردّ ثمن ما باعه بشكل أو بآخر. ما يهمّه أكثر كان استمرار اللعب ودوران رأس المال الصغير في مقمرته الصغيرة. وفي يوم، خسر الصغير القروش العشرة التي أعطته إياها أمه جعالة اليوم، فشعر بالقهر، ورغب في أن يسترد خسارته. لم يكن ثمن ما خسر هو ما أزعجه، بل خسارة كرامته. كان الولد الذي ربح منه الشكولاتة من حارة الخندق القريبة من حارته، فاعتبر ذلك إهانة لكلّ الحارة. سوى أن غضب الصغير سيساعد فقط في جعل الموقف أسوأ. للمرّة الأولى في حياته سيشتري شيئا بالدين من أبو رسول. كان في بعض الأحيان يشتري من أبو بدر ويطلب منه أن يضع ما اشتراه على حساب أبيه، وكان الأب يتغاضى عن ذلك أحيانا. أما الآن فكان الوضع مختلفا. باعه أبو رسول ما أراد، ولعب وخسر. استبد به الغضب من جديد فاستدان ولعب وخسر. عند الغروب، كان الصغير مدينا لأبي رسول بليرة وخمسة فرنكات. وكان ذلك مبلغا كبيرا.

كان الفرنك جزءا من عشرين من الليرة أو خمسة قروش، وكان يستطيع شراء الكثير في حمص الستينات. كان بإمكان الصغير أن يشتري به علكة تشكلتس، أو قطعتين من حلوى جوز الهند، أو قرص معمول بالعجوة صغير شتاء، أو إستيكة بوظة صغيرة في الصيف. فإذا أراد قرص عجوة كبير وفاخر، فعليه أن يضاعف المبلغ إلى فرنكين. وعموما، كان كيلوغرام السكر بخمسة وثمانين قرشا وكيلوغرام الرز بخمسة وستين، والخبر بخمسة وثلاثين. أوقية اللحمة الممتازة كانت بليرة ونصف أوقية البن الفاخر بليرة أكثر. ولا ينسينّ أحد أن الأوقية الحمصية كانت 250 غراما وليس مئتين كباقي البلدات السورية.

جعالة الصغير اليومية كانت فرنكين، وكان يحصل أحيانا على فرنك إضافي من أمه. وفي أحسن الأحوال سوف يحتاج إلى عشرة أيام ليفي دينه لأبي رسول، لو امتنع عن شراء أي شيء لنفسه طيلة هذه المدّة. أحس الصغير بالقهر، وشعر بالحقد على الغريب الذي سلبه نقوده، وبالاحتقار لنفسه لأنه انساق في اللعبة دون تروٍّ. في اليوم الثاني أحضر لأبي رسول فرنكين، مصروفه ذلك اليوم، وفي اليوم الذي تلاه، والذي تلاه، وفي قلبه ثقل وحزن لا يطاق، يضاعف منه أبو رسول بتهديده في إخبار "أبو فراس" – والده. وكان مستعدا لخسارة أي شيء مقابل ألا يعلم أبوه بفعلته. وفي كلّ يوم كان يشتهي أن يشتري شيئا لنفسه، كان يقمعها بشدّة، كأنه يعاقب نفسه، ويشعر باللذة وهو يفعل ذلك. بعد أسبوع كان قد سدّد أكثر من نصف المبلغ. وكان في أحد أيام الجمعة في الحارة وحيدا، يكرّج عجلة دراجة قديمة بعصا صغيرة، حين مرّ بالحارة شابان غريبان.

"مرحبا يا شب"، قال أحدهما. "بتعرف وين بيت الحلو؟"

والد جدّته لأمه كان لديه زوجتان، أم فؤاد التي عاشت قرابة المائة، وشهدت عصر التلفزيون؛ وأم رياض التي كانت تصغرها بنحو ثلاثين سنة، وعاشت بعدها طويلا. وكان الصغير يعرف أن والد جدته كانت كنيته الحلو. 

وأجاب الصغير: "بعرف بيت رضوان الحلو."

"فيك تدلنا عليه؟"

هزّ رأسه، وسار أمام الرجلين يكرّج عجلته، خرج من شارع التلّة على شارع باب هود، ثم انعطف يمينا في حارة متعرّجة، كانت أمه تسير فيها لتصل إلى بيت الحلو. وقف أمام بيت عربي قديم، وأشار إليه. ثم لوى عنقه يبتغي العودة.

"لحظة"! قال أحد الشابين، ومدّ يده أخرج من جيبه نصف ليرة كاملة.

"لقاء تعبك"، أكمل.

"ما بصير!" قال الصغير بتردّد، يتذكر كلام أمه ألا يقبل نقودا من غريب، وعيناه لا تبرحان القطعة النقدية. وأصرّ الشاب، فمدّ يده وأخذ القطعة بخجل، ثمّ مضى يكرج عجلته عائدا إلى الحارة. ومضى مباشرة على أبي رسول، فأعطاه القطعة، وشعر براحة غريبة، كمن أزيل عن صدره جبلا كان يجثم فوقه. ولا يذكر الصغير الذي كبر قطّ أنه استدان أي مبلغ لا يقدر على تسديده فورا.

على أن دكانة أبي رسول لم تكن دكانة فحسب. كانت أيضا البيت الذي يعيش فيه مع أولاده الثلاثة: رسول وطارق ودريد. وينام الجميع في سقيفة الدكان التي لا تزيد مساحتها عن 16 مترا مربعا. ولم يكن في الدكان حمّام، فكان الأربعة يستخدمون مرحاض الجامع القريب. ويذهب الأولاد إلى بيت أمهم المطلقة للاستحمام مرة كل أسبوع أو أسبوعين. أمّا أبو رسول نفسه فكان يستحمّ في حمّام السوق، ولكنه نادرا ما كان يفعل. وكانت أمّ الصغير كثيرا ما ترسله إلى دكان أبي رسول ومعه صحن فيه سكبة من طبخة اليوم، وكذا تفعل سيدات أخريات. وكان وجه أبي رسول عندها يشرق بابتسامة محبّبة، وهو يمدّ يده ليأخذ الصحن، فيسكبه في صحن من عنده ويعيد الأول للصغير.

ومع ذلك، كان لدكانة أبي رسول دور آخر غير لعب القمار. ففي أمسيات الشتاء خاصة، عندما يكون البرد يقرع الشوارع وهواء حمص يخلي المدينة، كان أبو رسول يجمع بعض قطع الخشب من النجارين الثلاثة الذين كانوا في الحارة، ويضعها في صفيحة فيشعلها، ويتحلق الأولاد حولها، مادين أيديهم الباردة لتحصل على قسط من الدفء. عندها كان الحديث يدور حول شؤون الحارة وأخبارها، وقد يدور بين الأولاد حديث سياسي. كان أبو رسول ناصريا عنيدا، ولم يكن يخفي ناصريته، وكان الصغير بتأثير أسرته لا يحب عبد الناصر، وغالبا ما كان يردّد أمام أبي رسول الحجج التي كان يسمعها في البيت.  وحين سيكبر الصغير قليلا فيغدو فتى، سيحب أن يخوض في مسابقات الأبيات الشعرية (يأتي أحد الأولاد ببيت شعر وعلى الثاني أن يأتي ببيت آخر يبدأ بنفس الحرف الذي انتهى به البيت الأول). وكان من يكسب دائما ولد يكبر الصغير بسنتين هو شاكر شيخ السوق الذي كان في الصف العاشر ولكنه يحفظ قرابة ألفي بيت شعري.

****

كلمات مفتاحية