ذاكرة مدينة.. ديك الجن وورد وأم كلثوم

2020.04.11 | 00:12 دمشق

unnamed.jpg
+A
حجم الخط
-A

ملاصقا للباب الأسود المصمَت الذي خرجتْ منه الجنازة، توجد ورشة "أبو كرمو" لبخ الديكور. اسمه عبد الكريم، ولكن الجميع كان يناديه أبو كرمو تحببا. نشأت بين الصغير وبينه صداقة خاصّة. كان أبو كرمو شابا في أواخر عشرينياته، وسيماً، وبخاصة حين يبدل ملابس الشغل مساء ويجلس على كرسي خيزران قبالة محله، يرقب العابرين في الزقاق. عندها، كان الصغير غالبا ما يقف بجواره، فيتبادل معه أحاديث شتى، عن المدرسة والحارة وعن أسرته. كان أبو كرمو يدخن، ولكن الصغير كان يريده أن يقلع، فإذا رآه مرة وهو يشعل سيجارة، خاصمه، وابتعد عنه، حتى يعتذر الرجل.

لم يكن والد الصغير سعيدا بهذه العلاقة بين صغيره والجار. وفي البدء، كان الصغير يحسب أن السبب هو ملابس أبو كرمو الملطخة بالصباغ، ولم يخطر بباله، إلا لاحقا، أن الشاب كان معجبا بأخته الوحيدة. ولا عرف الصبي ما إذا كانت أخته تبادله شعورا بشعور. ولكنه يعرف أنه في يوم من أوائل صيف عام 1961، سيزورهم في حمص عمّه الوحيد المقيم في حماة مع ثاني أكبر أبنائه. ودار بين والد الصبي وعمه حديث لم يفقه الصغير منه الكثير، ولكنه سيعرف لاحقا أن ابن عمّه الحموي قد خطب أخته. كان الصغير يحب ابن عمه هذا للطفه وتباسطه معه في الحديث. وكان الصغير الذي تعلّم بعض العبارات الفرنسية في روضة الراهبات اليسوعيات، يعد من واحد إلى عشرين بالفرنسية، ويستطيع أن يسأل ضيوف أهله: " voulez-vous de l'eau?"، هل تريد ماء؟ فصار ابن عمّه يناديه "مستر لو". وسيظل يستخدم هذا النداء المحبب حتى حين يغدو الصبي رجلا وسياسيا وكاتبا معروفا، نوعا ما. ولطالما أراد الصبي أن يصحّح له عبارته من "مستر لو" إلى "مسيو لو" لكي تتوحّد اللغة، ولكن الخجل كان يمنعه.

خطبة أخته كانت تعني أنها ستترك البيت والمدينة وتعيش في حماة. في الغربة كما كانت أمه وخالته تردّدان، لذلك، ذهب إلى أخته ورجاها أن ترفض. كانت أخته تعني له الكثير، مع فارق العمر قرابة الإحدى عشرة سنة، كانت تلعب دور أمّ وأخت وصديقة. وقد تركت له في جبينه ندبة لن تفارقه طوال حياته، وسيكون دوما سعيدا بها، حين كانت تركض وراءه ملاعبة وهو يهرب منها، ثمّ يهوي فجأة فيضرب جبينه بالطرف البارز لذراع إحدى الكنبات، وينفر الدم من بين عينه، فتصاب أخته بالهلع، وتحضنه وتبكي. وتأتي الأم، فتضع بعض القهوة على الجرح، وتنتهي القصة عند هذا الحد.

"ليش ما بدك ياني اتزوج؟" سألته مها

فبدأ ينشج بقهر ويردّد "ما بدي إياك تروحي."

ولكنّ الأيام التالية حسّنت مزاجه، فحين توغل الصيف، نسي الصبي فظاعة الراهبات في المدرسة، وصار ابن عمّه يزورهم، فيصحب خطيبته في مشوار. ولأن الأم لم تكن تسمح للفتاة أن تذهب مع خطيبها وحيدة، كان على الثنائي أن يصحبا معهما الصبي، كرقيب. وغالبا ما كان ابن عمّه يأخذهما إلى كازينو ديك الجن، الذي كان قد افتتح قبل عامين، في منطقة الميماس الشهيرة على نهر العاصي، وكان وقتها تحفة المدينة ورئتها في أمسيات الصيف الحارّة. بُني كازينو ديك الجنّ قبالة المنتزه التاريخي المعروف باسم "عبّارة". وفيما بدأ عبّارة يترهّل، كان ديك الجنّ يتألّق بأناقة ولطف العاملين فيه وابتسامة حسن الحسيني، صاحب المطعم، وهو يستقبلك عند الباب.  اختار الحسيني اسم منتزهه على اسم الشاعر ديك الجنّ الحمصي، الذي كان يقضي نهاراته ولياليه على ضفاف العاصي، يبكي حبيبته ورد، بعدما قتلها من فرط غيرته عليها.

اختار الحسيني اسم منتزهه على اسم الشاعر ديك الجنّ الحمصي، الذي كان يقضي نهاراته ولياليه على ضفاف العاصي، يبكي حبيبته ورد

ليس ينسى الإحساس الآسر الذي تملّكه أول مرّة حين رافق أخته وخطيبها، ونزلوا درجات السلّم الصغير، الحميمي واللطيف، الذي نزل بهم عن مستوى الشارع حتى حاذى مياه النهر. كان مزيجا من الفتنة والغبطة والسحر، وهو يسير فوق الممرّ الذي يتوسّط مساحات من المرج، متنقّلا بين عدد من الطاولات، حتى وصلوا حدّ السياج المحاذي للنهار، فجلسوا على طاولة، وراح الولد يتأمّل النهر بفرح غامر، وانتابه شعور أنه إن مدّ قدمه قليلا فستبتلّ بماء العاصي المقدّس.

لم يكن الصبي رقيبا جيدا، ولم يسمع ما كان يدور بين أخته وخطيبها، وحين لمحه يخطف قبلة سريعة منها، رشاه الشاب بقطعة شوكولاتة كانت في جيبه، ففشلتْ مهمّته كرقيب أخلاقي، وراح يتلذذّ بأكل الشوكولاتة ويحتسي عصير الليمونادة، بينما اقتسم ابن عمه وأخته زجاجة كبيرة من بيرة الشرق المبرّدة، صبّها النادل في كأسين. وراح الصبي يتأمل جريان المياه، بينما تتسلّل إلى أذنيه من مكبر للصوت أغنية أمّ كلثوم التي كانت رائجة تلك الأيام:

حبّ إيه اللي انت جاي تقول عليه

إنت عارف قبله معنى الحبّ إيه

عندما رجع إلى البيت، انتحت به أمه جانبا، وسألته بلباقة عن الوقت الذي أمضاه مع أخته وخطيبها، فحكى لها كلّ شيء، ما عدا تلك القبلة التي شعر أنها يجب أن تكون سرّا بينهم هم الثلاثة.

ولكن الأيام الجميلة تمضي مسرعة دوما (ألا تفعل؟). فبعد سنة ستنزل أخته من بيتها لآخر مرّة، لتركب في سيارة أجرة مع أمه، ومعه أيضا، فوجد نفسه محشورا بين المرأتين، بينما جلس أبوه في المقعد الأمامي صامتا. حين ركبوا السيّارة حانت منه نظرة إلى أبو كرمو الذي كان ممسكا بمضخة البخّ، يصوّبها إلى كرسي خشبي، بينما يسرق نظرات إلى الموكب الصغير الذي سينقل الفتاة إلى بيت آخر، وإلى الأبد. 

إلى جانب مشاوير أخته التي كان يرافقها إلى الخياطة التي كانت تفصّل لها جهازها وإلى كازينو ديك الجن، وإلى جانب اللعب مع ظهيرة وأخوته وأولاد الحارة، أمضى الصبي أشهر الصيف في جدل مع أبيه حول المدرسة الابتدائية التي سيلتحق بها. لقد انتهت قبل أشهر مدرسة الروضة الرهيبة التي أمضى فيها أتعس شهور طفولته، لولا مدموزيل دلال التي كانت تلوّن وحشته بابتسامتها وسواد عينيها، وحان الوقت لينتقل إلى مدرسة ابتدائية رسمية.

كان الصبي يريد الالتحاق بمدرسة "سيّد قريش" القريبة من بيته، في قلب شارع باب هود المليء بالضجة وورشات العمل وباعة الفخّار والمنجّدين وباعة الخضار. يتعامد شارع باب هود مع شارع التلّة الذي يسكن فيه الصغير. وكان الشارع يفتن الصبي بالازدحام الكبير الذي يسببه الباعة والمشترون والمارّة وراكبو الدراجات الهوائية والفلاحون والبدو الذين انحدروا إلى المدينة حاملين معهم صوفهم ولبنهم وسمنهم العربي الأصيل في قُرَب جلدية، وهم يساومون باعة الدكاكين لبيعهم ما معهم، أو يبسطونها على الأرض ويعرضونها للمشترين الذين يأتون الشارع من كل أنحاء المدينة. يؤدّي الشارع غربا إلى السرايا ثمّ إلى شارع طرابلس، بينما يؤدّي شرقا إلى شارع أبو الهول الذي يأخذك شمالا إلى منطقة باب السوق الذي كان في يوم غابر سوق المدينة الرئيسي، وجنوبا إلى سوق الحشيش. فإن تجاوزت شارع أبو الهول وتابعت شرقا، فستصل إلى السوق المسقوف الذي كان الصبي يحب أن يسير فيه وقت العصر من أيام الصيف القائظ، حين يهجع معظم أهل المدينة في قيلولة طاغية، فيجد فيها رطوبة ساحرة وسلاما.

يعتقد الحماصنة أن هذا المقام يضمّ رفات النبي هود، ومنه أخذ الشارع، والحي، اسميهما: باب هود

وسط شارع باب هود، ثمّة غرفة مهجورة، لها باب واحد موصد دائما بقفل معدني مهترئ، وشباك بإطار خشبي مكسور الزجاج. داخل الغرفة قبر صغير، عليه غطاء أخضر مهترئ، ويعتقد الحماصنة أن هذا المقام يضمّ رفات النبي هود، ومنه أخذ الشارع، والحي، اسميهما: باب هود. وفي الداخل كان الصغير يرى قطع نقود معدنية مرمية قرب الجدث للتبرك.

بجانب المقام، كانت مدرسة سيد قريش وهي المدرسة التي كان الصبي يجادل أباه ليدرجه فيها، والسبب أن فيها رفيقيه في الحارة غازي وفيصل مندو. كان فيصل في عمر الصبي تقريبا، بينما كان غازي يكبرهما بسنة ربما. وكان الولدان لا يختلطان كثيرا بأولاد الحارة، فنادرا ما يلعبان الكرة مع الأولاد وأكثر ندرة أن يشاركا في لعبة العسكر والحرامية. ولكنهما كانا شديدي التهذيب، يتحدثان بهدوء. كان الصغير يجالس الأخوين على عتبة باب بيتهما العربي، فيحكيان له قصصا تسرح بخياله إلى عالم خيالي من المتعة والخوف والغرابة، وهما يتحدثان عنه كأنه أمر واقع، متوار فقط وراء الباب. وكان الصبي يحس أنه لو ذهب معهما إلى المدرسة فلن يشعر بالرهبة وسيساعدانه في فهم العالم الجديد.  

ولكن الأب كان له رأي آخر.