ذاكرة مدينة: حين اعتقل أبو شمسو عويّد

2020.05.16 | 00:02 دمشق

fndq-qsr-rghdan.jpeg
+A
حجم الخط
-A

سيعيش الصغير سنوات طوالا مع أرسين لوبين، وسيلعب دور المغامر الفرنسي الظريف الذي شكّل بعضا من شخصيته، وسيسحره الرجل الأنيق، الوسيم، شديد الذكاء، والشجاع، فيغيب معه عمّا يحيط به ساعات بعد الظهيرة كلّها، ولا يفيق إلا حين تصل عيناه إلى كلمة "تمّت" التي كانت ترجمات روايات أرسين لوبين المصرية واللبنانية تنتهي بها.

وسيكتشف الصغير بين سوبرمان وأرسين لوبين سماتٍ مشتركة كثيرة، فباستثناء أن لوبين كان لصّا، كان كلا الرجلين يسعى إلى إحقاق العدل وإنصاف المظلوم ومساعدة الفقير. ولئن كان لسوبرمان قوة خارقة لا يمكن أن تأتي أحدا غيره، فإن لوبين كان أيضا قوي البنية ويستطيع أن يعوّض عن الطيران والسرعة بالذكاء وخفّة الحركة. وكلا الرجلين يستخدم أسماء أخرى، ويتنكر كي يخفي شخصيته، وينجو من المكائد في اللحظة الأخيرة.

غير أن علاقة الرجلين برجال إنفاذ القانون تتباين فيما بينهما، فبينما كانت الشرطة تحب سوبرمان وتحترمه وتناديه في الملمّات، كانت علاقة أرسين لوبين بالشرطة متناقضة ومعقّدة، فهم لا يكنّون له كبير مودّة وإن كانوا يخشونه ويحترمونه إلى حدّ ما. ويكره رجال الشرطة سخرية لوبين منهم، وقدرته على المراوغة والإفلات منهم في كلّ مرة يعتقدون أنهم أحكموا الطباق عليه.

وكلا المغامرين مسكون بالآخرين، ولكن سوبرمان مقبول من المجتمع، معترف به، بينما يظل أرسين لوبين منبوذا باعتباره لصا، رغم أن جزءا كبيرا مما يسرقه لوبين يذهب إلى الفقراء، ورغم أنه يختار ضحاياه ممن جمعوا ثرواتهم بطرق غير شريفة، وغالبا ما يعيد توزيع قسم من سرقاته على المحتاجين. سوبرمان، إذن، ممن يتباهى المرء بمحبته وصداقته، أما أرسين لوبين، فتحبّه وتعجب به بصمت، دون أن تبوح بذلك للمجتمع.

وكان الصبي يحبّ كثيرا المفتش تيل، كبير مفتشي سكوتلانديارد، الرجل اللطيف البدين الذي يضع في فمه دوما قطعة اللبان، وسينتظر الولد طويلا قبل أن يعرف أن اللبان ما هو سوى العلكة التي يشتريها من عند أبو بدر بخمسة قروش. وكان الصغير يعتقد أن المفتش تيل يكن في أعماقه محبة واحتراما للوبين، على عكس المفتش الفرنسي جانيمار، النحيل، الطويل، والقاسي، وأكبر أعداء لوبين والعميل المسؤول عن القبض عليه في المقام الأول. أما خصم لوبين في الولايات المتحدة المفتش سمرز، فلم يكن الصغير يمانع فيه، ولكنه كان دائما يسأل لمَ على لوبين أن يسافر إلى أمريكا ولا يبقى في فرنسا أو إنكلترا؟

ثمّ ستندلع في حمص أواسط الستينيات حكاية ستشغل بال الحماصنة سنة أو بعض السنة. ففي ذات ليلة سيسمع الصغير أخويه سحبان وبشار وهما يحدثان الأم عن أرسين لوبين حمص، فتتسع عيناه وتنتصب أذناه كأذني كلب أحس بالخطر. كان يعرف من خبرته أنه لو سأل أيًّا من أخويه فلن يجيبه وسوف يغيّر مجرى الحديث على الأرجح، فصمت وراح يستمع بهدوء، وخُيِّل إليه أن دقّات قلبه كانت مدوية فحاول تهدئة روعه ما أمكن. وأفاد الصغير أن الأم كانت تريد أن تعرف أكثر، فراح بشار يستعرض معلوماته وعضلاته ويروي ما يعرفه.

كان عْويِّد بدويا انحدر إلى حمص من القرى البدوية المحيطة في المدينة وامتهن السرقة.  وبنى الحماصنة حوله عالما سحريا، فهو خفيف كالقط، سريع كالفهد، قوي كالحصان، يضع في حذائه نوابض تساعده على القفز من سطح بناية إلى أخرى مجاورة. 

كان ثمّة شبه بين عْويِّد وأرسين لوبين، قام الصغير بتضخيمه في خياله، فهو لا يسرق إلا الأغنياء ويعطي ما يسرق للفقراء. وحين سرق منزل تاجر كبير للخضرة، شعر الصغير بسرور باطني، بلغ حدّ الإثارة حين سمع جارة أمّه أم رينيه تقول لها إن عويّد جاء ليلا إلى بيت أسرة فقيرة تبعد عن بيتنا بضعة عشر مترا، ورمى من نافذة البيت مبلغا من المال الذي سرقه من بيت التاجر الكبير. ظهيرة اليوم التالي، وبينما كان الجميع في قيلولة الظهر المقدّسة في حمص، خرج هو يسعى إلى البيت كما حدّدته أم رينيه، كان بيتا عربيا من طابق واحد، وكانت له نافذة صغيرة على الشارع، وكانت النافذة مغلقة، تراكم على زجاجها غبار الشارع وغبار الأيام. وتخيّل عويد، وهو يرمي من هذه النافذة صرّة فيها النقود، كما كان يفعل جابر عثرات الكرام الذي أخبره عنه معلم الديانة. وشعر بنشوة تتصاعد من أحشائه إلى صدره، فابتسم، ومدّ يده الصغيرة يلمس النافذة الواطئة، ثمّ تلفّت حوله خشية أن يكون رآه أحد، ثم ولّى الأدبار. 

إلى جانب عويّد، كان الصغير مهووسا أيضا بشخصية أخرى شغلت بال الحماصنة وألهبت خيالهم في الستينيات. إنه عبد الفتاح شيخ زين، رئيس قسم المباحث بشرطة حمص.  قلّة يتذكرون هذا الاسم، ولكن كثرة من الحماصنة يتذكرون اسم شهرته: أبو شمسو. وكما سمع الصغير من أهله ورفاقه في الحارة عن مغامرات عويّد، كان سمع أيضا عن مهارة أبو شمسو في الإيقاع باللصوص واعتقالهم. وحين كان الرجل يمرّ في شوارع المدينة، بجثّته الضخمة ووجهه الأبيض الجميل وطربوشه المائل، كان ينثر مزيجا من الرهبة والمحبة والانبهار. وسيدور في نفس الصبي صراع هائل حين يبدأ أبو شمسو بملاحقة عويّد.  كان أبو شمسو يخشى نجاح عويّد في سرقاته ولكنه كان يخشى أكثر نمو شعبيته بشكل صارخ في أوساط الحماصنة. بل إنه أحسّ بإهانة شخصية وهو يرى حماس أهل مدينته وهو يتنحّى عنه إلى لصّ بدوي أمّي، انحدر إلى المدينة وسرق ليس أموالها فحسب ولكن محبتها أيضا. وبدأت في حمص مطاردة بين عناصر المباحث بزعامة أبو شمسو ومغامر فرد راح يهزأ بهم كما كان أرسين لوبين يهزأ بالمفتش تيل. وراح الصبي يتابع أخبار المطاردة، ويضع يده على قلبه خشية أن ينجح رجال المباحث باصطياد بطله الحمصي.

ثمّ وقع المحذور. رجع أخوه سحبان ذات يوم إلى البيت مساء وفي جعبته أخبار.

"سمعتم الأخبار؟" سأل وانتظر أن يقرّ الآخرون بقصورهم.

" أي أخبار؟"

"أمسكوا بعويّد؟"

أحس الأخ الأصغر بشار بالغيرة لأن سحبان هو من جاء بالخبر، وقلّل من أهمية الخبر: "إي أكيد رح يكمشوه."

ولكن الأم سألت عن التفاصيل، وراح سحبان يفصّل لها الكمين الذي نصبه أبو شمسو لعويّد، وكيف سار الأخير إليه مغمض العينين.

ولم يلتفت أحد إلى الصغير الذي كان يصغي للخبر بحرقة، وصعدت الدموع إلى عينيه، ولكنه لم يكن يحب أن يرى الآخرون هشاشته، فترك الغرفة ومضى إلى المطبخ ليغسل وجهه، وأحس أنه كان يكره أبو شمسو والمباحث والشرطة. كانت تلك لحظة فارقة في حياته، وسوف يستمر في كره الشرطة بكلّ أشكالها، السرية والعلنية وشرطة المرور، ولكن كراهيته ستنصبّ أكثر ما تفعل على نوع واحد من الشرطة: المخابرات، التي ستسرق من حياته في المستقبل سنواتٍ عشرا.

كلمات مفتاحية