ذاكرة مدينة: جون واين وفاتنات حمص

2020.07.25 | 00:03 دمشق

d8b4d8a7d8b1d8b9-d8a3d8a8d98a-d8a7d984d8b9d984d8a7d8a1-d8a7d984d985d8b9d8b1d98a-d8add985d8b5.jpg
+A
حجم الخط
-A

مع انفصال سوريا عن مصر سيستعيد الأب جريدته التي أغلقها عبد الناصر قبل سنوات. وسيعيد فتح مكتبه وسط البلد، حيث سيفاجئ الصغير أباه ذات نهار بزيارة في مكتبه، فيراه منهمكا في كتابة شيء ما على ورق أسمر، وهو يدخّن بشراهة. ولفت الصغير منظر مطفأة السجائر وهي عامرة بأعقاب سجائر "النوع أول" من دون فلتر. سيتذكر الصغير طويلا أنواع الدخان في طفولته. كان هنالك النوع أول غليظة الذي يدخّنه الأب، وكان أفخر أنواع الدخان، بسعر ليرة وعشر قروش للعلبة الواحدة.  والنوع أول رفيعة التي تستخدمه جدّة الصغير وسجائره مسوّرة بسوار ذهبي رفيع، ثم هناك سجائر النوع الثاني وهي أرخص بقليل، يليها دخان بافرا، وتطلي سرت غليظة وتطلي سرت رفيعة (وهي أسماء سيعرف الصبي لاحقا أن أصلها تركي)، ومن بين الأنواع الرخيصة كان هناك "مرجان" وثمن العلبة 40 قرشا والريف وسعرها 20 قرشا. وأخيرا كان هناك تبغ غير ملفوف في سجائر اسمه "الحموي"، يباع عادة مع ورق لف سجائر من النوع الرديء. الرجال الذين يريدون ورقا أفضل كانوا يشترون ورق الشام، الذي كان أصحابه يروّجون له بأبيات تقول:

يا بني الأوطان جمعا

ورق الشام خذوه

فهو صحي لذيذ

جرّبوه تعرفوه

ستمرّ عقود كثيرة وهذه الأبيات لا تفارق ذاكرة الصبي كما لا تفارق خيالَه العلبةُ المعدنية التي كان الرجال يضعون التبغ فيها، ولا منظر يدهم اليمنى وهي تضرب على غطاء العلبة قبل أن يفتحوها ويأخذوا بلفّ السيجارة على مهل وبمهارة ومتعة. سيحاول الولد عقودا طويلة أن يلف سيجارة بنفسه، فلا يستطيع إلى ذلك سبيلا.

دهش الأب وهو يرى الصغير يدخل مكتبه، فترك ما بيده وقام إليه من حول مكتبه:

"لوحدك؟ خيرا؟ ما جاء بك؟" أردف أسئلته بسرعة واحدا إثر الآخر.

"لا شيء. جئت أرى مكتبك."

"أمك تعرف؟"

كان الوقت ظهرا، خلال الاستراحة بين فترتي المدرسة الصباحية والمسائية.  قبل البعث كان أولاد المدارس يعودون إلى المدرسة ثلاثة أيام بعد الظهر، السبت والإثنين والأربعاء. ينصرف الأولاد في الثانية عشرة ظهرا إلى بيوتهم لتناول الغداء، ويعودون في الثانية فيمضون حصّتين إضافيتين. في الغالب كانت تلكما الحصتان موادّ غير رئيسية كالرسم والرياضة والموسيقا. في الفرصة بين الفترتين، قرّر الصغير أن يزور أباه في المكتب بدل الذهاب إلى البيت، دون أن يكلّف نفسه عناء إخبار والدته.

قبل أن يجيب عن سؤال أبيه الأخير، رنّ جرس الهاتف في مكتب الأب، ورفع الأب السماعة، واستطاع الصبي سماع صوت والدته يهدر من السماعة مرتجفا. لم يسمع الكلمات بوضوح، ولكنه سمع اسمه وكلمات مثل المدرسة، يأتي، تأخر.

وقال الأب مهدئا:

"لا تخافي! لا تخافي! هو عندي."

أعاد الأب السماعة وأجلس الصغير على ركبتيه وقال له بصوت حاسم ولكن من دون غضب ولا عصبية إن ما فعله خطأ، وإنه لا يستطيع أن يتجول في المدينة وحيدا دون إخبار أحد. لم يعاقب الأب الصبيّ، ولكن الأم فعلت. وكانت تلك إحدى المرّات القليلة التي ضربته بعصبية وهي تبكي:

"ما فكّرت شو عملت فيني؟"

وكان الصبي يبكي من الوجع ولكن أيضا من الندم، لما سبّبه لأمه من قلق.

ستكون حركة الصغير خارج حارته محدودة حتى ينهي مرحلته الابتدائية. قبل ذلك، كان هنالك أماكن قليلة يمكنه الذهب إليه. كان يستطيع الذهاب إلى أوّل شارع باب هود لشراء الخضار من عند الخضري عبد الباسط أو الخبز من مخبر السلام أو الحليب من محلّ أبو اللبن. أكثر ما كان يزعجه شراء الحليب. كانت أمّه ترسله بقِدْر من النحاس لشراء كيلو من الحليب كلّ يوم، وكان حّمل الوعاء مملوءا بالحليب في طريق العودة دون أن يسيل منه شيء عملية معقّدة تأخذ كل أعصابه وتفكيره. كان يحمل القدر بكلتا يديه ويطبق عليه بعصبية فلا يرفع عينيه عنه، مما يجعل سيره قلقا وربّما تعثّر بحجر أو نتوء أو حفرة صغيرة. قبل أن تعلّمه أمّه أن عليه ألا ينظر إلى القدر بل إلى الطريق أمامه. قالت له: إن نظرتَ إلى الطريق الرحبة رأيت كلّ شيء. أما إن ركّزت على ما بين قدميك، فاتك كلّ شيء. سيتذكّر هذه الحكمة حين سيتعلم قيادة الدراجة. ومع ذلك ليس حمل القِدر هو فقط ما كان يزعجه، بل منظر المشبّك والعوّامة والنمّورة وحلاوة الجبن، التي كان يراها عند بائع الحليب كلّ يوم شتاء فلا يستطيع أن يتذوّق قطعة صغيرة منها.

وسوى ذلك، كان يُسمح له أن يسير إلى ساحة الساعة الجديدة التي عمّرتها المحسنة الحمصية في المهجر كرجية حداد، حيث يلعب على حوافّ قاعدتها المنحدرة، فيصعد الدرجات القليلة ثم يجلس على السطح الأملس المائل فيتزحلق إلى الأرض. وحين تغرب الشمس، سيستمتع بالعرض العسكري لثلّة من الجنود، وهي تخرج من موقع قيادة المنطقة الوسطى قبالة الساعة فتسير مشية عسكرية منتظمة حتى تقابل البناء، لأداء التحية بمهابة للعلم وهو ينزل عن السارية، مع نغمة البوق التي لم ينسها الصغير أبدا. في كلّ يوم كان الجنود يؤدّون التحية للعلم فجرا وعند الغروب. وكان الصغير يُدهش وهو يرى الرجال والنساء يقفون أثناء الاحتفال حتى ينزل العلم، ثمّ يتابعون سيرهم.

ذلك واحد من الأشياء التي سيسهم حكم البعث لاحقا في تدميرها. من الأمور الجميلة التي كانت تخلب لبّ الصغير في مشاوريه وسط البلد، منظر طلاب الكلية الحربية وهم يسيرون ببدلاتهم العسكرية البيضاء وخوذاتهم الأنيقة التي كان يشبّبها بخوذ جنود الرومان في الأفلام التي يراها، والعروض العسكرية التي كانت تحتفل بعيد الجلاء. ولكن أكثر ما يثير احترامه كان منظر الجنود حين كانوا يقفون إذا مرّت بهم جنازة، فيؤدّوا التحية العسكرية لها، ثم يمضوا في سبيلهم. وسيسأل الصبي نفسه حين يكبر أين ذهبت كل تلك المظاهر؟ كيف تحوّل الجنود من أفراد نظيفي الملابس واليد إلى قتلة ولصوص وشحّاذين. وسيشكّك أحيانا في ذاكرته، لولا أنه سيسأل بعض من جايل وسبقه، فيؤكّدون له أن ما كان يراه حقيقة.

كانت حمص التي عرفها الصغير مدينة صغيرة وآمنة وهادئة. وحتى في وسط المدينة لم يكن عدد السيارات يثير قلق الأهل. وشارع التلّة التي فيه بيت الصغير كان رغم ضيقه طريقا باتجاهين، وحين ستقرّر البلدية أواسط الستينات تركيب أول إشارة مرور في قلب المدينة، سيشعر الصغير بالغصّة، وكأن، العالم الهادئ الآمن الذي كان يعرفه قد بدأ يتداعى. وهو الشعور نفسه الذي انتابه حين قرّرت البلدية استبدال حجارة الطريق المعبّد بألفة وموّدة، والتي كان الصغير يعرف كلّ واحدة منها، بأسفلت سائل قبيح ولزج، كان يلتصق بأسفل الحذاء إلى أن جفّ.

سيُسمح له أيام الجمعة بالذهاب إلى السينما. وحينها كان يرتدي قميصا نظيفا، ويضع على رأسه قبعة تشبه قبّعة شامي كابور في فيلم "جنكلي"، لا يذكر أبدا كيف حصل عليها. كان الأب يعطيه في كل يوم ثلاثة فرنكات (خمسة عشر قرشا)، وفي يوم الجمعة يعطيه ثلاثة أرباع الليرة (خمسة وسبعون قرشا) تكفي بطاقة دخول للسينما وشراء لوح من الشكولاتة أو زجاجة سينالكو.  كان مولعا بشكل خاص بممثّلَين أميركيين: مارك فوريست الذي مثّل أفلام ماشيستي وستيف ريفز الذي لعب أدوار هرقل. ثم في أواسط الستينات سيبهره عالم جديد لم يكن عرفه من قبل: أفلام الويسترن، وسيبهره ممثل شاب اسمه كلينت إيستوود بفيلم من أجل حفنة من الدولارات، وستظلّ موسيقا الفيلم تمرّ في ذاكرته لعقود تاليات.

كان في حمص مطلع الستينات وأواسطها عشر دور سينما، لمدينة لا يتجاوز عدد سكانها مائتي ألف نسمة. أرقاها كانت سينما حمص، التي كانت سيدات حمص وصباياها يتوافدن عليها مساء كلّ يوم أحد لمشاهدة العرض الجديد. لسبب ما كانت حمص، كالقاهرة، تجدّد أفلامها كلّ يوم أحد. وكان الشباب والصبايا يرتدون أفضل ملابسهم لحضور أفلام يوم الأحد في سينما حمص، وهم يأتون أبكر من الموعد (غالبا حفلة الساعة السادسة) لكي يستعرضوا شبابهم وجمالهم وأناقتهم. سينما الزهراء افتتحت بعد سينما حمص، وكذلك سينما ستاركو التي كانت عبارة عن صالة فقط من دون بلكون. ولكن أعرق دور العرض كانت سينما الأوبرا التي بنيت على طراز دور الأوبرا، ففيها بلكون ولوج. أما اللوج فكان عبارة عن مقصورات صغيرة على جانبي البلكون وتمتدّان على يمين الصالة ويسارها.

كانت بطاقة السينما في الصالة بخمسة وخمسين قرشا، أما في البلكون فيصل سعر البطاقة إلى ثمانين قرشا. ولكن هنالك ثلاث دور عرض رخيصة تعيد الأفلام القديمة ويرتادها عموما العاطلون عن العمل وأشخاص يصفهم الحماصنة بـ "الزعران"، وكان سعر البطاقة بثلاثين قرشا فقط. ولكن الصبي كان ممنوعا من الذهاب إليها لسمعتها السيئة. وحين سيدخل إحدى هذه الدور الثلاث أول مرّة، سيخفق قلبه بشدّة ويجلس قرب الباب بحذر شديد، يراقب المحيط من حوله أكثر مما كان يشاهد الفيلم، ومرّت الساعتان بكاملهما دون أن يتعرّض لتحرّش أو إساءة، ودون أن يرى مشاجرة، ولكنه سيسمع صفيرا طويلا حين ينتصر البطل أو حين يقبّل البطلة في آخر الفيلم، قبل أن تظهر على الشاشة كلمة "النهاية".

وتبقى للسينما ذكرى لا تفارق الصبي أبدا. فحين كان ذات يوم يلعب في الحارة مع أصحابه، وملابسه ويداه وركبتاه كلّها وسخة، مرّت به أمه صحبة خالته وصديقتهما أم رينيه. كنّ في طريقهن إلى السينما لحضور فيلم "هاتاري" لجون واين، حول مغامرات الصيد في أفريقيا. كانت الأم تريد اصطحاب الصغير معهن، ولكنها حين رأت قذارة ملابسه رفضت أن تأخذه معها. شعر الصبي بخذلان وبألم شديد. في اليوم التالي ستعطيه الأم 60 قرشا ليحضر الفيلم. الفيلم جميل جدا ولكن وحدته وقهر الأمس حرماه من الاستمتاع به. بعد خمسين سنة، ستظلّ تلك الحادثة غصة في حلقه.

كلمات مفتاحية