ذاكرة مدينة: بين الفاخورة والتنّور

2020.06.13 | 00:00 دمشق

tnzyl.jpg
+A
حجم الخط
-A

كما هو متوقّع، انتصر الأب على الصغير في قضية اختيار المدرسة التي كانت تعني الكثير للصبي. ولكنه لن يندم كثيرا فيما بعد. كانت المدرسة الوليدية ذات سمعة حسنة من حيث المعلمون والإدارة والطلاب. ولكن اليوم الأول كان قاسيا كأي يوم أول لأي تلميذ في أي مدرسة في العالم. اصطحب الأب الصبي الذي كانت حياته الكئيبة في روضة الراهبات ما تزال ماثلة في ذهنه والذي هُزم في معركته لاختيار المدرسة التي كان يريد. كانت في قلب الصغير غصّة وكآبة وشيء من الخوف والريبة. كانت المدرسة في الشارع الذي سيعرف باسم أبي العلاء المعرّي، والذي يعرفه الحماصنة باسم شارع سينما حمص، لأن أرقى دار سينما وقتها كانت موجودة فيه. ولم تكن مدرسة بالمعنى الحقيقي، كانت مجموعة غرف في الطابق الثاني من بناء تجاري، يعلو مجموعة من محال الأزياء، ويجاور سينما حمص الشهيرة.

 في مكتب المدير، نهض رجل ضئيل القامة وسيم الوجه أبيض البشرة بشاربين صغيرين، ولكنهما كانا يغطيان جزءاً لا بأس به من وجهه الصغير، ورحّب بوالد الصبي باحترام ظاهر. كان الصغير يشعر أن لأبيه احتراماً خاصّاً في المدينة، وحيثما كان يصحبه، كان الحماصنة يحييونه بنوع من التبجيل. وهو نفسه كان يشعر بالرهبة من أبيه، رغم أن الرجل لم يعنّفه إلا قليلا ولا يذكر الصغير أن أباه ضربه سوى مرّة واحدة، كان يلعب فيها في الشارع، وسمع الرجل ولداً يشتم الصغير بكلمة نابية. صعق الصغير من الصفعة، ولكن دهشته كانت أكبر: لماذا يضربه أبوه إذا كان الولد هو من استخدم الكلمة النابية وليس هو.

سلّم المدير على الأب والصبي، وجلس الأب فيما ظلّ الصغير واقفاً بجانبه. وسأل المدير الصبيّ عن اسمه وعمره بلطف بادٍ. كانت الصفقة أن يتجاوز الصبي الصفّ الأول، فهو قد أنجز دروسه في الفصل الثاني من سنته في روضة الراهبات. وسأله المدير، فيما بدا أسئلة عرضية، أن يقرأ جملة صغيرة وأن يجمع عددين. ويبدو أن الصغير قد نجح، أو أن وساطة الأب كان يصعب ردّها، فوافق الرجل أخيراً على قبول الصغير في الصفّ الثاني. نهض الأب بعد أن أنهى فنجان قهوته، وودّع المدير الذي أصرّ على مصاحبة الأب حتى الباب، ثمّ عاد أدراجه، والصبي يلحق به مسرعاً. وكأن المدير نسي أمر الولد، فناداه الصغير: "أستاذ!" التفت الرجل الضئيل، وبدا كأنه تذكّر الولد، فنادى معلّما كان يمرّ وقتها، وطلب منه أن يأخذ الصغير إلى الصف الثاني الشعبة الثانية. اختفت فجأة كلّ أمارات اللطف والتهذيب التي كانت بادية عليه. بدلاً منها غطت وجهه الصغير غلالة من الضجر، وسارع يتخلّص من الصغير، ويعود إلى عمله.

كان الألم الذي شعر به الصغير وهو يرى المدير يهمله بعد أن كان يتودّد إليه أشبه بالألم الذي كان يعتصر قلبه في مدرسة الراهبات التحضيرية، وخاصّة في صفّ مدموزيل إيزابيل، أو في باحة المدرسة، حين كان يرقب الأولاد وهم يلهون بينما يكتفي هو بالوقوف كتمثال في زاوية الباحة، يرقبهم بنوع من الحد والحسرة. ووقر في نفسه أنه سيشكو المدير لأبيه، سيقول له إن الرجل أهمله حالما غادر الأب المدرسة. وهو لا يذكر اليوم إن كان قد اشتكاه فعلاً أم هزّ كتفيه وقال لنفسه: "وما الفائدة؟"

على أن الألم لن يستمرّ طويلاً. فسيكتشف الصغير لأول مرّة شيئاً ما كان يعرفه سابقاً: الصداقة.  في هذا الصفّ سيتعرف الصغير على صديق طفولته وصباه الأول، غانم الجمالي. كان غانم صبياً جميل الوجه نظيف الملابس، سيذكره الصغير دوماً وهو يرتدي جاكيتا بنياً فاتحاً فوق قميص نظيف وبنطال مكوي. لم يلبس الصغير جاكيتا حتى نجح في المرحلة الثانوية وذهب إلى الجامعة في دمشق. وقتها اصطحبه أبوه إلى الخياط الذي يفصّل هو عنده بدلاته، وطلب منه أن يفصّل للفتى بدلة كحلية مقلّمة بخيط أبيض رفيع، مع بنطال إضافي.  وحين ارتداها الشاب أوّل مرّة سار فيها متئّداً وبشيء من الخيلاء، وأحسّ أنه قد انتقل من فئة إلى فئة، من عمر إلى عمر، ومن حياة إلى حياة. لذلك، كانت رؤية ولد صغير يرتدي جاكيتا أنيقاً حدثاً مهماً في مدرسة ابتدائية في مدينة صغيرة كحمص مطلع الستينات. ولكن غانم لم يكن فقط أنيقاً ونظيفاً وجميلاً. كان أيضاً شديد الذكاء واللطف. بدا دائماً أكبر من عمره من حيث السلوك وانتقاء الكلمات. جاء من عائلة مثقفة من الشريحة العليا من الطبقة الوسطى، وانعكس ذلك على بناء شخصيته. ستنشأ بين الصبي وغانم علاقة متواشجة متشابكة، بسيطة أحياناً ومعقّدة أحياناً أخرى. كان الصبي يشعر تجاه صديقه بمزيج من المحبة والإعجاب وبعض الغيرة وكثير من الارتياح الداخلي تشوبه دوماً نفحة من القلق، خشية أن يفسد هذه الصداقة شيء لا يدريه.

كثيراً ما كان يزور صديقه في منزله في حيّ الفاخورة. ليذهب إلى بيته، عليه أن يسير في شارع باب هود شرقاً حتى نهايته، ثم يدلف في سوق التجار، ويخرج من طرفه الآخر، باتجاه حمّام الباشا.  كان يشعر في بيت صديقه براحة غريبة ودفء وطمأنينة. كان الصغيران يحكيان كلّ شيء. في المدرسة والمعلمين ورفاق الصفّ. وكان الصغير يحكي لرفيقه عن حبيبته التي اختلق وجودها وأسماها ليلى، ويبالغ في الحديث عنها، إلى حدّ يجعل صديقه ينظر إليه شذراً، غير مصدّق، دون أن يقول، لتهذيبه ذلك.

ولئن كانت زيارة غانم مغامرة تتطلب منه أن يعبر شارع باب هود المزدحم دوماً بكلّ أصناف البشر. فقد كانت على الأرجح مغامرة آمنة. في أول الشارع هناك عبد الباسط بائع الخضار الذي يشتري أبوه الخضار من دكانه، وهناك أيضاً أبو جاسم اللحام، ومخبز السلام ودكانة السوّاس بائع الحليب. وفي منتصف الطريق دكان زوج خالته، أبو خالد، الذي كان يبيع فيها جرار الفخار. كلّما كان يمرّ من أمامه، كان يسلّم عليه، وأحياناً يقعد بضع دقائق يتحادثان معاً. كان أبو خالد رجلاً مسنّاً يرتدي جلابية ويعتمر طربوشاً عثمانياً. ولكنه كان مثقفاً كأفضل ما يكون عليه رجل لم يحصل على تعليم مدرسي. كان قارئاً نهماً لكّل ما يقع تحت يديه. ولكنه كان يفضَل كتب التاريخ، ومن بينها كان مغرماً بكتاب "تاريخ قيام وسقوط الرايخ الثالث" لويليام شيرر. وكان يحبّ كثيراً أن يتحدّث عنه. وفي الحقيقة كان متحدّثاً ماهراً، وحين كان يعود مساء إلى البيت، كان يحدّث زوجته خالتي بكل قصص السوق، ثمّ لا بدّ أن يعرّج على كتاب تاريخ الرايخ. ويذكر الصغير أن أمّه كانت تشعر بنوع من الأسف لأن أباه لم يكن يتحدّث كثيراً في البيت، كصهرها.  وحين يكون أبو خالد رائث المزاج وقد باع بيعة لا بأس بها، فإنه يعطي الصغير حصالة من الفخار، نادراً ما كان يضع فيه أي قرش.

ستمتد الصداقة مع غانم طويلاً، على مدى المرحلة الابتدائية ثمّ ستنتقل معه إلى المرحلة الإعدادية، حين ينتقل الولدان إلى مدرسة خالد بن الوليد، ومع غانم سيدخّن أوّل سيجارة وسيشاهد أوّل فيلم سينمائي دون صحبة أحد من أهله. وحين كانا يتخاصمان كأي ولدين، كان جبل من الحزن يمكث فوق قلب الصغير، حتى ينبلج صبح ما ويظهر على شفتي غانم شبح ابتسامة ما، لتبدأ مرحلة من استعادة الصداقة، كانت تثلج نار قلبه.

 ولكنهما سيفترقان في المرحلة الثانوية، فبينما سيدرس الصغير في الفرع الأدبي ويذهب إذن إلى ثانوية الفارابي، سيذهب غانم إلى ثانوية عبد الحميد الزهراوي، التي كانت مقصد من يريد دراسة الطب والهندسة. وسيدرس غانم الطبّ، شأن معظم الطلاب المتفوقين الذين يأتون من الطبقة الوسطى-العليا.  ولدى الصغير كلّ مبرّر ليعتقد أنه غدا طبيباً ماهراً وأنه كان يراعي مرضاه صحياً واجتماعياً. حين سيكبر الصغير، ويمرّ بمرحلة العمل السياسي والاعتقال لعشر سنوات، ثمّ يطلق سراحه، سيسأل عن عيادة غانم الجمالي، ويقول له قائل إنها في باب السوق، أول طريق حماة. سيذهب الصغير الذي كبر إلى العنوان الذي أعطيَه في بعد ظهيرة يوم صيفي معتدل، وسيقرأ لافتة العيادة التي كتب عليها بخط جميل اسم صديق طفولته: غانم الجمالي – أخصائي أشعة، فيقفز قلبه. وسيصعد الدرج إلى الطابق الثاني فيقترب من باب العيادة المغلق (ربما بسبب القيلولة الحمصية المقدسة) فيتحسس الباب واسم الصديق، ثمّ سينحدر نازلاً ويعود إلى بيت أهله كئيباً. كان في أعماقه شيء يقول إن الأمور قد تغيّرت وإن الولدين كبرا وابتعدا وافترقت سبلهما، ومن يدري اليوم أي مسرب كان مسرب صديق؟ وستمرّ سنوات أخرى قبل أن تحدث واقعة لن يجد الصغير وقد بدأ يهرم تبريراً منطقياً. كان يجلس مع أخويه سحبان وبشار وخاله غصوب وصديقي العائلة اللذين سيرحلان في فترات متقاربة بعد سنوات: معتصم دالاتي ومنصور الأتاسي في مطعم التنور الصيفي في ظاهر المدينة، في ليلة صيفية فاتنة.  وضع الصغير الذي كبر وبدأ يهرم كأس العرق المغبّشة على الطاولة، وسأل عرضاً وهو يضع في فمه حبة فستق:

"بيعرف حدا منكم طبيب اسمه غانم الجمالي".

"طبعاً" أجاب الجميع.

"كيف فيني أوصل له؟"

فضحك منصور الأتاسي بصوته العريض المحبّب وقال:

"هذا أسهل شيء في الدنيا. هداك هو، على تلك الطاولة".

وأشار بإصبعه، فنظر الصغير الذي هرم إلى الطاولة فرأى عليها نحو ستة أشخاص، فطار قلبه فرحاً، ونهض فمشى صوب الطاولة، منتشياً بالعرق ومنتشياً بالصدفة الغريبة.  جال بصره بين الوجوه الستة، واختار أحدها. نعم هذا هو. لن تستطيع ثلاثة عقود أن تنسيه هذا الوجه الأليف.

"مرحباً غانم. بتتذكر ولد كان اسمه وائل السوّاح؟"

"أهلين وائل،" قال غانم. لم يبْدِ أي حماس، ولعلّه وقف ولعلّه لم يقف. لا يذكر الآن. نظر الولد الذي كبر إلى صديق طفولته بذهول وخجل من نفسه، وعاد إلى طاولته، وهو يحاول أن يخفي خزيه. من بين كلّ من كان معه مات ليوم أربعة: مات خاله غصوب وأخوه بشار وصديقه معتصم دالاتي ورفيقه منصور الأتاسي، وتُرك هو وحيداً، لا يعرف الحقيقة. أكان في حمص ليلتها مع من كان؟ أسأل عن غانم؟ أكان غانم على مرمى دمعة منه؟ أذهب إليه وعرّفه عن نفسه، فلم يكترث. ليس واثقاً تماماً. ورحل كلّ من يمكن أن يؤيد أو ينفي الواقعة.

كلمات مفتاحية