ذاكرة مدينة: المواجهة الأولى مع الملكين

2020.04.04 | 00:05 دمشق

sat-hms-aljdydt-09042019585.png
+A
حجم الخط
-A

أسفل بيت الصبي وقبالته دكاكين لحرفيين وبائعين سيلعبون في حياته دورا كبيرا. قبالة باب البناية مباشرة باب حديدي أسود، لم يرّه الصبي مفتوحا على الإطلاق، لأن البيت ذا الطابق الواحد كان له مدخل آخر في حارة فرعية تمتدّ من شارع التلة إلى الشارع الموازي له جهة الشرق: شارع الخندق. وذات صباح، حين نزل الصبي إلى الحارة في صيف إحدى سنوات الستينيات، فوجئ بذلك الباب مفتوحا لأول مرة، وأمامه في الشارع المرصوف بحجارة مربّعة فاتنة، سيقرر أحد البيروقراطيين بعد عام استبدالها بإسفلت كريه، وقف ثلة من الرجال والشباب، صامتين أو يتحدثون همسا. بجانبهم، امتدّت سقالة بأربع أرجل تمدّد فوقها تابوت خشبي غير مدهون. تسلل إلى جوف الصبي شعور مبهم امتزج فيه الخوف بالإثارة. كانت تلك أول مواجهة بينه وبين الموت. سابقا كان الموت بالنسبة له مجرّد كلمة. كان يعرف مثلا أن جدّيه لأمه وأبيه ميتان، وكذلك جدّته لأبيه، ولكنه لم يشهد وفاة أيّ منهم، فجميعهم ماتوا قبل ولادته. اقترب من الرجال الواقفين قبالة الباب، محاولا أن يسمع ما يهمسون به، بيد أنه لم يسمع سوى غمغمات. ثمّ عرف أخيرا من أحد أصدقائه، ظهيرة، أن جدّ العائلة، قد توفيّ ليلا، وسيشيعونه اليوم عند صلاة الظهر.

"بتيجي؟" سأله ظهيرة؟

"لوين؟" أجاب بسؤال آخر.

"ع التربة." قال ظهيرة وبدا عليه أنه مصمّم على الذهاب هو نفسه.

لم يكن اسمه الحقيقي ظهيرة. كان عبد الظاهر الحسامي، يسكن وأسرته في البيت العربي الواقع أسفل شرفة الصبي، في الزقاق الثاني الواصل بين شارع التلة وطريق الشام. على عكس الزقاق الأول الذي طالما تحاشى الصبي المرور فيه، كان هذا الزقاق مليئا بالحياة والحركة، ففيه على اليمين بقالية ومحل حلاقة ودار كبيرة لأخوين كانا يحفران الخشب، ومكتب عقاري، وعلى اليسار بيتان: أحدهما بيت يسكنه عجوز مخيف يتدّلى أسفل بطنه فتق عجيب كبير، يحمله معه أينما ذهب. كنا نناديه "أبو قرّ" وعادة ما نفرّ منه كلّما أطل في الحارة، خوفا من سلاطة لسانه وفزعا من منظر الفتق الذي كان يبدو كبيرا جدا داخل بنطاله.

البيت الثاني كان بيت ظهيرة الحسامي، تسكنه أم رشيد مع تسعة من أولادها: سبعةِ صبيان وبنتين. كان الأب يعمل في السعودية، حين كان قلّة فقط من الحماصنة يعملون هناك، وكان يأتي مرّة واحدة في السنة، فيمضي بضعة أسابيع في الصيف، وحين يسافر، كانت بوادر حمل جديد تظهر على الأم الصبور. وكان باب بيت الحسامي مفتوحا دوما، وحين لا يجد الصبيّ "ظهيرة" أو أيا من أخوته في الحارة، كان يدلف إلى بيتهم دون أن يكلّف نفسه عناء استخدام الجرس أو مدقّة الباب. يؤدي الباب إلى ممر مظلم قصير يفضي إلى أرض الديار الصغيرة المعدّسة، بجانب الممر إلى اليمين مطبخ صغير، غالبا ما كنت ترى الأم فيه وهي تعدّ طعام الغداء، على موقد الكيروسين (البريموس) الذي كان يهدر بصوت جبّار بعد أن تحقنه الأمّ وتنكشه بنكاشة البابور، فيلتهب بنار عظيمة.  في أكثر البيوت الحمصية، بدأت الأسر باستبدال موقد الغاز بالبابور، واحتفظت بالأخير للغسيل فقط، وهو ما فعلته أمي مثلا، ولكن أم رشيد، كانت تصرّ على الطبخ على البابور لأن موقد الغاز مكلف أكثر وأضعف من أن يهيئ الطعام لعشرة أشخاص. هل قلتُ عشرة؟ في الحقيقة، كان الصبي غالبا ما يدعو نفسه إلى الغداء عندهم، ودائما ما كانت أم رشيد ترحّب به بابتسامة وكرم. على يمين البيت غرفتا نوم، وعلى يساره غرفة صغيرة للعائلة، مفروشة بحصيرة وبساط ووسائد على أرضية الغرفة، وغرفة أكبر للضيوف، كان الصبي يدخلها فقط حين يلعبون لعبة "الاستخباية" ليختبئ وراء مقعد أو صوفا، بينما يبحث عنه من عليه الدور.

لا يدري الصبي كيف تحول عبد القادر إلى ظهير ثمّ ظهيرة. ولكنه ليس الوحيد في العائلة، فباستثناء أخيه الأكبر رشيد – الذي كان يُرعب أخوته ويرعب كلّ أولاد الحارة، حين كان في غياب أبيه يلعب دور المربّي، مستخدما حزامه كأداة للتربية – كان لكلّ صبي في العائلة اسم تحبب. عبد الفتاح الذي يلي رشيد كان فاتح، ومنار نورا، وجمال جوجو، وعامر عمّورة. أما الأخ الذي يكبر ظهيرة مباشرة فتحول اسمه من محمد إلى "الحجة"، على الأغلب لأنه كان يهز جسمه إلى الأمام والوراء حين كان طفلا.

سيظلّ ظهيرة الصديق المقرّب إلى الصبي في الحارة، حتى يغادر المدينة للدراسة في الجامعة، حين سيبعد بينهما التنائي، وحين – بعد سنوات –سيعتقل الصبي (وقد غدا شابا) بسبب نشاطه السياسي لعشر سنوات، ثم يطلق سراحه مطلع التسعينيات، سيلتقي "الحجة" ويساله عن ظهيرة، وسيشرد "الحجة" بعينيه بعيدا، قبل أن يعود بعد لحظات ليقول له:

"لا نعرف عنه شيئا. راح من عشر سنين ولم يعد. كنت آمل أن تخبرني عنه أنت."

"ما بعرف،" أجاب الصبي ظهيرة الذي كان ينتظر إجابته بتلهّف، "بيجوز ما تخليني أمي."

"لا تقلْ لها. سنذهب ونعود قبل أن تشعر بغيابك."

تناوبه شعوران، أولهما الخوف والرهبة من الموت والمقبرة، وثانيهما الاستطلاع واستكشاف المجهول. وبقي بدون قرار حتى خرجت الجنازة من البيت، فوجد نفسه يسير وراءها مع ظهيرة ونورا وآخرين بدون إرادة، يقرقع بحذائه على حجارة الطريق، مسوقا كالمسلوب، مخلّفا وراءه النساء وعويلهن على الميت، وقد تقدّم الجنازة الشيخ سميح، بهلول حمص الذي كان لا يترك جنازة دون أن يسير في مقدمتها حاملا غصنا كبيرا من النخيل، بذقنه الخفيفة وصوته العريض المريع.

كانت تلك أول مرّة يدخل الصبي فيها مقبرة، أي مقبرة، وتملكه شعور قوي بالخوف والرهبة، ترافق مع شعور آخر بالسكينة والراحة. وراقه أن يتغلّب شعور السكينة على الإحساس بالخوف. كان الصمت المحيط غريبا، يترك في الآذان صدىً غير مسموع. وبدأ الرجال يتمتمون بصوت عال سورة ياسين، ثمّ رأى الصبي الرجال وهم يُنزلون الجثمان بكفنه الأبيض، قبل أن يجلس رجل عند رأس الميت، ويذكّره بما يجب أن يقول للملَكَين حين يأتيانه بعد قليل.

سيظلّ منظر الملَكَين وهما يستجوبان الميت في خيال الصبي زمنا طويلا، حتى حين يغدو رجلا، ويجلس مكبّلا في غرف التحقيق، كان منظر الملكين لا يفارق خياله. وحين عاد إلى البيت بعد الجنازة، سألته أمه أين كان، فأجاب إنه كان يلعب مع أصحابه في الحارة، ثمّ سألها:

"عرفتِ أن جارنا مات؟"

"إي، الله يرحمه."

وأراد أن يسألها شيئا، ولكنه أجّل السؤال لحين مجيئ أبيه عند الغداء. اختلى به، وسأله:

"بابا، لماذا يعذّب الملائكة الموتى قبل يوم الحساب؟"

مرّر الأب أصابع يده اليمنى في شعر الصبي وقال له:

" الله أرحم من ذلك بكثير. هذه خرافات العوام، يا بني. لا تأبه لذلك. "

ولكنه ظلّ يأبه لذلك، وأكثر ما بات يخشاه هو أن يموت أبوه، وكان دائما حين يصلّي يدعو الله أن يطيل عمر أبيه، ثمّ حين يخشى أن يستثقل الله دعاءه، كان يضيف:

"على الأقل حتى آخذ البكالوريا."

وحين نزل إلى الحارة عند عصر ذاك اليوم، وجد ظهيرة وقد تحلّق حوله رهط من الأولاد، وهو يقصّ عليهم مغامرته في المقبرة. وسمعه يقول لهم:

"أنزلوه في القبر، ثم راحوا يرمون الحجارة فوقه بلا رحمة."

ثم نظر إلى الصبي مستنجدا:

"أليس كذلك؟"

وهزّ الصبي رأسه مؤيدا. فالتفت إليه الصبية الآخرون، وسأله أحدهم:

"وأنت؟ ألم تخف أيضا؟"

تردّد زمنا قبل أن يجيب كاذبا:

"أنا، طبعا لم أخف. ما الذي يخيف في الأمر؟"

ثمّ تركهم مبتعدا، وجلس على كرسي صغير أمام دكان البقال أبو بدر.

كلمات مفتاحية