ذاكرة مدينة: المبارزة

2020.06.27 | 00:01 دمشق

2020-06-16t000000z_1071116822_rc2bah9nub58_rtrmadp_3_syria-economy-family.jpg
+A
حجم الخط
-A

لن يطول المقام بالمدرسة الوليدية في شارع المتنبي، بل ستنتقل في منتصف العام الدراسي إلى شارع التلّة، على بعد أمتار من بيت الصغير. فإذا غادر الصبي بيته ومشى يسارا، وتجاوز زقاق الرعب بعد الجامع، سيحاذي الميتم الإسلامي، ثم سيدلف في زقاق مسدود يودي به إلى مدرسته. كان للمدرسة بابان: أحدهما الباب الذي يدلف منه الطلاب، وهو المتفرع من شارع التلة، والآخر هو الباب الرئيسي الذي يدخل منه الأساتذة والمدير والضيوف. كان البناء سابقا بيتا كبيرا لأحد أغنياء المدينة، وقد نُقلت المدرسة إليه دون أن تجدّد أي شيء فيه، فبقي البناء كدار عتيقة كبيرة بجدران لونها أميل إلى الصفرة وبلاط صغير متآكل في بعض الأنحاء. سيظل الصبي في هذه المدرسة نيّفا وأربع سنوات، ولكنها ستسكن خياله إلى الأبد، فجزء كبير من أحلامه سيتكرّر في فناء المدرسة أو في الزقاق المؤدّي إليها. سيذكر دائما باحة المدرسة والدرج العتيق الذي يصعد عبره إلى الصفوف، وسيذكر الغرفة الخربة الصغيرة على يسار المدخل التي كان آذن المدرسة يستخدمها لبيع القضامة والبسكويت للتلاميذ في أثناء الفرصة. سيذكر عدنان، الصبيَّ الطويل الذي كان يعلوه صفّا واحدا، وهو يسير معه في الباحة فيشبك ذراعه بذراع الصبي أو يحيط بها كتفه ويحدّثه بلطف ورقّة، قبل أن يطلب منه أن يقرضه فرنكا أو اثنين.  وحين كان الصبي يتردّد، كان عدنان يكرّر بصوت يتراوح بين الأسى والتهديد:

"ما بدّك؟ معلش. الله يسامحك."

وغالبا ما كان الصغير، مدفوعا ببعض الأسف على ما بدر منه وبعض الشفقة وبعض الخجل وبعض الخوف، يمدّ يده إلى جيبه فيخرج القطعة النقدية ويعطيها لعدنان، الذي ما إن يأخذها حتى يختفي تماما إلى أن يحين يوم آخر يحتاج فيه نقودا. لم يحدث أبدا أن أعاد عدنان ما اقترضه من نقود، وغالبا ما كان القرض يعني أن يحرم الصغير نفسه من القضامة أو البسكويت.

إلى جانب غانم الجمالي، كان هنالك ثلّة من الرفاق الذين اغتنت بهم حياة الصغير، ولسوف تختلف بهم الطرق والمسارب، فلا يعود يجمع بينهم جامع، ولكن صورهم لا تزال في ذهنه طازجة. بينهم محمود فاخوري الولد الرقيق المهذّب الذي كان يخشى أن يزعج أحدا، فيقدم دائما التنازلات لكي يسعد الجميع. يذكّره الآن بمريول المدرسة الأسود وهو يجلس في زاوية من باحة المدرسة في أوائل الربيع، حين تعمل أشعة الشمس على تدفئة عظام الصغار التي نال منها البرد في الشتاء. كان ثمّة دائما في جيب المريول بعض الحلوى أو القضامة، وكان غالبا ما يتقاسمها مع الصغير ومع غانم. كان الثلاثة يشكلّون شلّة يومية من المودة والمرح واللهو. يلعبون في الفرصة ويجلسون في مقاعد متقاربة في الفصل، ويتزاورون في بعض الأحايين في العصاري.

حين ستنتقل أسرة غانم الجمالي من بيتهم الجميل في الفاخورة إلى حيّ الإنشاءات ستكون زيارة الصبيّين له مغامرة حقيقية.  يقع حيّ الإنشاءات الآن في قلب المدينة، ولكنه في أواسط الستينيات كان حيّا متطرّفا، يفصله عن آخر بيت في المدينة مفازة شاسعة من البريّة والفضاء الرحب.. والكلاب. ولئن كان باستطاعة الصغير أن يسير على الطريق العام، خارجا من بيته إلى طريق الشام، فينعطف عليه شمالا باتجاه مصّلى باب هود، ثمّ يتجّه غربا على طريق طرابلس، حتى يلاقي المَفرَق الذي يأخذه، جنوبا، نحو سبع بنايات منفردات يقفن قرب بعضهن منتصبات فوق أعمدة تجعل الطابق الأرضي بهوا كبيرا مفتوحا للعب الأولاد. لأوّل مرّة في مدينته، كان الصبي يرى بناية تقف على أعمدة، وليس فيها طابق أرضي مسكون كبيت أو كمحال تجارية وورش عمل.  إذاً كان في مستطاع الصغير أن يأخذ الطريق العام، ولكنه إن سار قاطعا الفلاة البرية بين آخر بيت على الكورنيش وبين البنايات السبع المنعزلات، فإنه يوفّر نصف الوقت، ما كان يتيح له أن يلعب وقتا أطول مع غانم. ولكن إن كان الوقت شتاء، فسيصل وحذاؤه مغطى بالوحل، وإن كان الوقت صيفا فسيصل وهو مغطى بالعرق. أفضل الأوقات كان الربيع. سجّادة مذهلة من الألوان كانت تفرش كلّ الأرض البرية التي تفصل بيت صديقه عن العمران. وحينها كان الصبي يسير ببطء متنقلا بين الأحجار الصغيرة، يقلّبها فيعثر تحتها على يرقات بألف رِجل وألف لون. وإذ ذاك كان يصل متأخرا بعض الوقت ولكنه ممتلئ فتنة وغبطة وسحرا وراحة بال. وكانت الأوقات أحلى بكثير إذا كان في صحبة محمود، يقطعان الطريق ركضا أو يسيران الهوينى ويتحدّثان في كلّ شيء. وسيتذكّر إلى آخر يوم في حياته، حين عاد من بيت صاحبه ذات مساء، ولمحته الكلاب، فركضت وراءه، وقد تذكّر قول بعض أصحابه أن يثبت ويلتقط حجرا، فوقف لوهلة، والتقط حجرا، ولكن الكلاب لم تهبْه، فرمى الحجر وطار ركضا، حتى وصل أوائل البنيان، فخلّته الكلاب وعادت، بينما توقف هو منقطع الأنفاس لا يصدّق أنه نجا.

إلى جانب غانم الجمالي، كان هنالك ثلّة من الرفاق الذين اغتنت بهم حياة الصغير، ولسوف تختلف بهم الطرق والمسارب، فلا يعود يجمع بينهم جامع

وبين الرفاق أيضا ملاذ السباعي، كان يسابق غانم في الدرجة الأولى، وبينما يقنع الصبي بحصوله على "مرحى"، كان ملاذ وغانم غالبا ما يحصلان على شهادة "امتياز"، وكان الصبي يشعر بغصّة لذلك. موفق الجرايحي كان صبيا جميل العينين قوي البنية لمّاحا، غالبا ما كان يستضيف الصبيّ في شقته الصغيرة في شارع أبو العوف، فتطعمهما أمه طبق فاصولياء مع الرز أو لحمة بالصينية، لم يذُقْ الصغير ألذّ منها.

أقرب أصدقائه مكانا كان وجيه سنبل. يسكن وأمّه وأخته في بيت عربي من غرفتين، على كتف زقاق المدرسة. وكان الصبي أحيانا ينهي وظائفه ويمضي إلى بيت وجيه، فيفتح الباب الذي لم يقفل ابدأ إلا في الليل، ويدخل من دون استئذان، فيلعب وصديقه في أرض الديار الصغيرة، حتى يملّ ثمّ يعود إلى بيته.

وجيه هو من سيدافع عنه، عندما سيتحرّش به صبي في الصف الرابع في باحة المدرسة. وفي واحدة من الحوادث النادرة سيتجرأ الصغير أن يتحدّى الصبي، فيدعو الأخير للقتال بعد المدرسة. مرّت الدروس بطيئة قاتلة، دون أن يفهم الصبي حرفا من دروس معلّمه. كان باله مشغولا بما سيحدث بعد المدرسة. كان خصمه أكبر منه وأقوى وأشرس. رنّ الجرس النهائي، وسار خارج المدرسة يحيط به ثلّة من الأولاد الذين كانوا ينتظرون أن يشاهدوا مبارزة مثيرة. واقترح الخصم أن يذهب الجميع إلى زقاق الرعب، فانصاع لكيلا يتّهم بالجبن، وزاد الزقاق الموحش من خوفه أضعافا. في الزقاق شكّل الأولاد حلقة حول الخصمين، وراحوا ينتظرون الملاكمة.

"يلله لشوف. فرجيني!" قال الخصم.

وعندها قال الصبي أسخف شيء يمكن أن يقوله صبي في حلبة مبارزة.

"أنا أفضّل القتال بالحكي،" قال الصبي والخجل يصبّ فوقه عرقا باردا، وهو بعد عقود حين يفكّر بتلك العبارة لا يدري حقّا ما كان يعني بها. ولكن القتال بالكلمات كان بالتأكيد أسلم من العراك بالأيدي.

ذهل الخصم، وضحك الأولاد بغضب، وهم يرون أن المبارزة ستفلت في النهاية من أيديهم، وحثّوا الخصم على ألا يقبل بعرض الصبي. واستجاب الخصم لتحريضهم، فمدّ يده يشدّ الصغير من ياقة قميصه. وفقط في تلك اللحظة، يصل الأستاذ عبد الإله البريجاوي، معلّم صفّ الصغير الذي كان الصغير يعشقه، بصحبة وجيه سنبل، الذي علم بقصة المبارزة، فذهب وأخبر المعلّم. وكأن يد الله هي التي امتدت فأخرجت الصبي من محنته، كمن يستفيق من كابوس، وأحبطت آمال الأولاد بمشاهدة علقة فاخرة. انفرط عقد الصبية، وهدّد الخصم قائلا:

"معليش يا وجيه. منتلاقى!"

ولكنهما لم يتلاقيا. انتهت القصّة عند ذاك الحدّ وانشغل الخصم ربما بمعارك أخرى، بينما تعلّم الصغير درسا أن الشجاعة يمكن أن تؤدي إلى التهلكة.

لا يمكن وصف الصغير بالشجاعة. وهو غالبا ما كان يتفادى العراك، ويتخلّف عن المشاكل. لا يذكر أن ضرب أحدا في حياته. أما هو فقد صُفع مرّة أو مرّتين. وكأنه سيوفّر الصفع والركل والضرب كلّه إلى وقت اعتقاله بعد نحو من عشرين سنة، فيعوّض الجّلادون كلّ ما تفاداه الصبي في طفولته ومراهقته وشبابه الأول.