ذاكرة مدينة: الحارة الأولى

2020.03.20 | 23:01 دمشق

sat-hms-aljdydt-09042019585.png
+A
حجم الخط
-A

بخبث وحذر شديدين، يتسلّق شارع النادي الحمصي تلّة صغيرة، بادئا من دار الحكومة في الساحة الرئيسية وسط المدينة بحمص، قبل أن ينحدر سريعا باتجاه طريق الشام، على امتداد أقلّ من أربعمائة متر فقط. أخذ الشارع اسمه من "النادي الحمصي" الذي أسّسه حماصنة مغتربون في البرازيل. وكانت الجمعيات الحمصية الثقافية أول ما ظهرت في أمريكا اللاتينية، إذ إن الحماصنة كانوا يشكلون النسبة الكبرى من المهاجرين السوريين في أمريكا اللاتينيةـ بين عامي 1910 و1930.  من بين تلك الجمعيات كانت جمعية الشباب الحمصي الخيرية التي تأسست في سانتياغو، تشيلي، عام 1913 والنادي الحمصي في ساو باولو، البرازيل في عام 1920.

منذ أواخر القرن التاسع عشر، أرسلت المدينة الغافية على ضفاف العاصي نخبة من مثقفيها وشعرائها إلى العالم الجديد، فارقوها دون أن تفارقهم. بينهم كرجية حداد، المولودة في حمص عام 1890، وهاجرت مع عائلتها إلى البرازيل عام 1902 ضمن موجات الهجرة السورية الكبيرة في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، غدت سيدة أعمال ثرية، فأهدت حمص مطلع الخمسينات أحد أجمل آثارها الحديثة: ساعة حمص، التي أمضى كل أطفال حمص سنوات وهم يلهون حولها، متسلقين أضلع قاعدتها الرباعية، على مدى عقود، قبل أن تشتهر أثناء انطلاق الثورة السورية، حين احتشد حولها عشرات ألوف الحماصنة، فأطلقت قوّات الأسد النار الحيّ عليهم، وقتلت العشرات، معلنة بدء  حمّام الدم الذي لا يزال يغسل البلاد حتى اللحظة.

وبينهم نخبة الشعراء الذين جعلوا اسم المدينة الصغيرة يتردّد على كلّ لسان، ندره حداد وميشال مغربي ونصر سمعان وحسني غراب، وقبلهم جميعا نسيب عريضة الذي تجعل كل قارئ لقصائده في حمص يتمنى لو كان حمصيا:

يا دهرُ قد طالَ البُعادُ عن الوطن        

هل عَودةٌ تُرجى وقد فات الظَعَن

عُد بي إلى حِمصٍ ولو حَشوَ الكَفَن

واهتِف أتيتُ بعاثِرٍ مَردودِ

واجعَل ضريحي من حِجارٍ سُودِ.

ولكن أهالي المدينة سينسون اسم الشارع الأساسي ويطلقون عليه ببساطة "شارع التلة" لاعتلائه الخبيث تلك الطَلعة اللطيفة، كما نسوا اسم شارع شكري القوتلي فأسموه شارع السرايا، واسم شارع المتنبي فأسموه شارع الدبلان.

إذا مشيت في ستينات القرن الفائت في شارع التلّة قادما من السرايا، فستمرّ جهة اليمين ببيتين عربيين، يليهما زقاق ضيق مسدود الآخر، في نهايته باب يؤدي إلى المدرسة الوليدية، التي لو دخلتها في الستينات أيضا لوجدت ولدا صغيرا ضئيل البنية قصير القامة يركض في الباحة مع رفاقه غانم الجمالي وموفق الجرايحي ومحمود الفاخوري وشاكر القاسمي وملاذ السباعي، وسيكون لهذا الولد شأن في حكايتنا بعد قليل. يلي ذلك الزقاق بناء قديم من طابقين، تأتيك منه دائما صيحات أولاد بمراييل سوداء، يلهَون في ساحة البناء، أو تراهم جالسين في صفوفهم على مقاعد دراسية خشبية عتيقة، وهم يردّدون وراء معلميهم نشيدا أو يتعلمون الحساب. إنه الميتم الإسلامي، الذي أسّسته الجمعية الخيرية الإسلامية في حمص، في العشرينات من القرن الماضي. يضمّ الميتم أولادا فقدوا آباءهم، يتعلّمون في الطابق الأرضي، ينامون في الطابق الأول.

ثم هنالك زقاق آخر يصل ما بين شارع التلّة وطريق الشام، فيه بيتان، أحدهما مسكون من قبل عائلة حمصية من أصل أفغاني وآخر مهجور، يسكنه شياطين لا أحد يعرف عددها. ولطالما خشي الصبي المرور في ذلك الزقاق، بسبب سمعةٍ ما غامضةٍ وحكايات تدور حوله، لم يفهمها ولم يحاول ذلك قط. يأتي من ثمّة جامع التلّة، بمئذنته البيضاء السامقة وجدرانه المصفرّة. ولو دخلت هذا الجامع في الستينات في صلاة الجمعة، لوجدت شيخا جليلا نحيلا، بلفّة بيضاء وجبّة رمادية نظيفة، وهو يلقي بخطبة الجمعة من على منبر الجامع، بصوت ضعيف متهدّج. إنه الشيخ طاهر الرئيس، الذي يحمل الحماصنة له نوعا من التقديس لطيبته وبساطته وتعمّقه في الدين وبكائه المستمرّ حين يتلو القرآن. أما في الصلوات الخمس، فسيسحرك شيخ جليل آخر، كان الصبي يتأمله بفتنة ورهبة، ويتخيل الله على شاكلته. إنه الشيخ عيون السود بوجهه الجميل ولحيته البيضاء وقامته القصيرة. أما إن دخلته عصر أحد الأيام في منتصف الستينات، فستجد الصبيَّ مصليا أو متحلّقا في حلقة لقراءة القرآن أو الذكر، بين مجموعة من الرجال يكبرونه بعقود، وتعصف بقلبه لذّة لن يعرف لها مثيلا إلا بعد بضع سنوات، حين ستختطفه لحظة سرية دافئة في الخامسة عشرة من عمره، وقتَ أذهله سائل تدفق بين ساقيه، أفقده صوابه. 

يعلو الجامعة التلّة التي يتسلّقها الشارع، فإذا ما انحدرت بعد بضعة أمتار فستأتيك بنايتان توءمان متلاصقتان، بطابق أرضي وطابقين علويين، يفصل بينهما في الوسط منور كبير يطل على الطابق الأرض في بنايتنا. كان يسكن إبراهيم مع عائلته. إذا ما قورن بأولاد الحارة جميعا، كان إبراهيم يتمتّع بكل شيء. كان لديه درّاجة صغيرة بثلاث عجلات وسيارة صغيرة حمراء يقوده داخل شقته، ولديه الكثير من الشوكولاتة، ولكنه لم يكن ينزل الحارة ليلعب مع الأولاد مطلقا. كان الصبي يزوره أحيانا بناء على دعوة والدته، فيشاركه ركوب السيارة الحمراء ويأكل معه الشوكولاتة ويلعب بألعابه الأخرى. 

في البناية الثانية، كان الصبي يسكن في الطابق الأول، مع أبويه واثنين من أخوته الكبار، سحبان وبشّار، وأخته التي كان يُفتن دائما بجمالها وطيبتها: مها. أخوه الأكبر فراس، كان قد غادر حمص إلى دمشق للدراسة في الجامعة، وسيزور حمص مرّات قليلة في السنة. يفصل بين الصبي وأصغر أخوته بشّار ست سنوات، ما جعل الولد يعيش وكأنه ولد وحيد، فما كان أخواه اللذان يمضيان الوقت في الشجار والقراءة يأبهان للعب معه. والدة الصبي كانت تعاني من اكتئاب مزمن وهوس النظافة، فكانت تبقي الصغير بجانبها معظم الوقت. وهي أساسا لم تكن ترغب في إنجابه، بل إنها حاولت إسقاطه عدّة مرّات، ولكنه تشبّث برحمها بقوة، وقد يكون أنفق معظم ما لديه من قوّة، لذلك، سيكون في سنواته الأولى ضعيفا، غير واثق من نفسه. وفي أحد تقارير العلامات الفصلية، سيكتب والده للمعلم ملاحظة، بقيت في ذاكرته حتى بعد أن دخل الكهولة: "شديد الخوف، ضعيف الشخصية، يرجى الاهتمام بذلك"!

أمضى الصبي السنوات الأولى من حياته في البيت، وحين غادره أول مرّة، كانت إلى المدرسة. أخذه أبوه إلى روضة أطفال تشرف عليها راهبات يسوعيات، تشرف عليها رئيسة راهبات صارمة، وتديرها كثكنة عسكرية. كان الأطفال يقفون في الطابور الصباحي كالجنود، وحين يدخلون الصف، يسيرون على أصابع أرجلهم. وقبل الدروس، كان الأولاد يضعون أيديهم على طاولات مقاعدهم، ليظهروا أن أظفارهم مقصوصة، وبجانب الأيدي الممدودة، منديل أبيض نظيف ومكوي بعناية. أي خلل سيؤدي إلى الضرب بالمسطرة على ظهور الأيدي.

كانت معلمة الصبي الأولى مدموزيل إيزابيل. سيدة شقراء نحيلة بعينين زرقاوين باهتتين وذقن مدبّب، تدلّت منه شعيرات ملفتة الطول. لم تحبّ إيزابيل الولد، ولم يحبّها أبدا. ولم تتأخر عن استخدام مسطرتها كلّما اعتقدت أن الصبي يحتاج إلى تذكير.

في الفرصة بين الدروس، كانت رئيسة الراهبات تسمح للأولاد باللعب والتأرجح على أرجوحتين منصوبتين في باحة المدرسة، أو التزحلق على الزحليقة الصفراء أو أرجوحة القبّان ذات الكفتين، تعلي ولدا وتخفض الآخر. ولم يشارك الصبي في أي منها، ولم يلعب مع أي من الأولاد، بل كان ينتحي دائما ركنا منعزلا من الباحة، يأكل شطيرته التي أعدتها له أمه، ويرقب الأولاد بشيء من الحسد والغيرة.

ولكنه سيثبت تفوّقا في دروسه، فترفّعه المديرة من صفّ إلى صفّ. وستحلّ محل مدموزيل إيزابيل الكئيبة المتجهّمة معلمة أخرى: مدموزيل دلال، سيدة حنطية بشعر أسود وعينين سوداوين وشفتين ممتلئتين، مفترّتين غالبا عن ابتسامة كانت تكشف عن أسنان طالما لفتت انتباه الصبي ببياضها وتناسقها. وعلى الضدّ من إيزابيل، كانت دلال لطيفة، ولم تعاقب أيا من الأطفال بمسطرتها التي كانت تستخدمها فقط للإشارة إلى السبورة السوداء. وقع الصبي في عشق المدموزيل، وبات يتابعها بعينيه وقلبه، وكانت تبدي نحوه اهتماما خاصّا. بعد تسع سنوات، سيشارك الصبي وهو في الصف التاسع في مسابقات "أوائل الطلبة"، التي كانت تقام بين المدارس الإعدادية في كلّ مدينة، وسيجيب على أكثر من نصف أسئلة الفريق، وسيفوز فريقه على فريق بنات مدرسة سكينة. وفي نهاية الحفل، ستقترب منه سيّدة حنطية اللون، بشعر أسود وعينين سوداوين وشفتين ممتلئتين، مفترّتين عن ابتسامة لطيفة كشفت عن أسنان لفت انتباه الفتى ببياضها وتناسقها. وقالت له:

"أحسنت. أحسنت. ما عرفتني؟"

"مدموزيل دلال!!" هتف الفتى باستحياء وفرح ووَله، وأردف:

"معقول ما أعرفك؟!"

ثمّ شدّ على يدها الممدودة له، فسرى من يدها ليده تيار من الدفء والمحبة والحنان.

كلمات مفتاحية