دوّامة السوريّين

2020.12.25 | 23:04 دمشق

20200314_1584205516-13.jpeg
+A
حجم الخط
-A

في الكون ما لا يحصى من المشكلات التي ينبغي التصدّي لها، منها ما يتعلّق بالعلوم وتطوّراتها، ومنها ما يتعلّق بالقيم وتحوّلاتها.. غير أننا نحن - أبناء العالم الثالث - ما نزال نعيش أحقاب ما قبل الميلاد. ولم يعد وارداً أن نتّبع آراء بعض المستشرقين وإمّعاتهم المنتشرين في العالم الذين يعزون أسباب تخّلفنا إلى العقل الشرقي الجامد وأحياناً إلى العقل العربي الذي يحمل بذور تخلّفه في جيناته الوراثية والتاريخية معاً.

المشكلة الأساسية تكمن في تلك القوى المهيمنة التي تحرص باستمرار على إجراء غسيل مخ جماعي يطول الدول الغنية التي يحرص بعض المتنفذين فيها على تجاهل المواطن بوصفه إنساناً، والحرص على إفقاره واستغلاله بكل الوسائل الممكنة، وغالباً تحت ستار قانون صاغه السادة لتبقى رؤوس الأموال متركّزة في خزائنهم.

هؤلاء السادة لا طاقة لهم على مواجهة الشعوب مما يجعلهم مضطرين إلى محالفة الأجنبي والاحتماء بمظلّته والاستعانة بخزائنه لحفظ سلطاتهم وأموالهم وقوّتهم الطاغية.

ولأنّ العالم في تغيّر مستمر، تنبّه سادة الدول المتحكّمون بمصائر الشعوب، إلى أهمية الاستحواذ على الألقاب العلمية ومراكز البحث العلمي، وهذا سهل ما داموا هم أهل الأمر والنهي، وهم الذين يمنحون الآخرين (كرماً وتفضّلاً) المناصب والألقاب على اختلاف أشكالها وتسمياتها، فلماذا لا يحتفظون بالأولوية من كل شيء. وهكذا غدا المواطنون درجات، ترى في الصف الأول مواطن الواجهة الذي يمارس طقوس الحكم ويلقي الخطب الرنانة، ويمنح الوعود الخلّبية بسخاء، ويتصنّع البراءة -  وقد يكون بريئاً -  أو ساذجاً، ويترأس الاجتماعات الدبلوماسية والسياسية، ويكتفي بالزهد بألقابه وألبسة الحرير التي ينعم بها.

وفي الصف الثاني – الخفي، يأتي أصحاب القرار الذين لا تظهر أسماؤهم عادةً في وسائل الإعلام، وإنما يكتفون بلعب دور القوى السرّية التي تحرّك البلاد وفق ما تشاؤه أهواء أصحابها، بما في ذلك التحكّم بحركات أصحاب الصف الأول والسيطرة على أقوالهم وأفعالهم، بحجة أن أصحاب الصف الثاني يعلمون من سفالة الشعب ما لا يعلمه أصحاب الصف الأول.

بعد هؤلاء تأتي مرتبة المنتفعين من أصحاب المراكز السياسية والعسكرية الذين يصولون ويجولون في البلاد وخارجها بما يحقّق مصالحهم من غير أن يدوسوا بأي حال على أذيال القابعين في الصف الثاني الفاعلين.

ثم يأتي المديرون الإمّعات الذين توزّع عليهم توجيهات المرحلة التكتيكية ليركزوا على تعميق نهجها حتى إشعار آخر قد يأمرهم بعكس الاتجاه بشكل كامل. وهؤلاء لهم مطلق الحرية بالتصرف في مديرياتهم وكأنها ملك شخصي لهم، يعيّنون ويقيلون، يكافئون ويحرمون ويعاقبون بالشكل الذي يرونه مناسباً لتحقيق مصالحهم الخاصة التي تحفظ لهم توازن بقائهم إمّعات لا يتذمرون من مذلّة التابعية ما داموا يعدّون مرؤوسيهم عبيداً لهم، ويحيون بذلك ذكرى قرون خلت، كان ينعم بها المتنفّذون بحاشية من الخدم تقوم متى قاموا وتجلس متى جلسوا، وتشكّل لهم جمهرة توحي بالعظمة حين تسير خلفهم حيث يسيرون.

بعد هذه التراتبية يتدفق الرعايا، يتخذ بعضهم أشكال سادتهم ويحذون حذوهم، مع فارق وحيد هو أنهم يقلدونهم من غير أن يحصلوا على المنافع التي يجنيها السادة نتيجة سياساتهم.

وتبقى فئة قليلة، هم الذين يراقبون ما يجري ويعلمون فداحته وخطورته من غير أن يكونوا قادرين على التغيير. إنهم الفئة المتألمة التي يعي أصحابها أنهم وقعوا في فخ التراتبية المزرية، رُسمت لهم حدود القول والفعل، وأُطلقوا كي يعانوا في تحصيل لقمة العيش وفي المحاولة المستمرة للحفاظ على أعمالهم أو وظائفهم في ظل انعدام أمان لا ينعم به إلا المتملّقون.

ينصرف هؤلاء، ومنهم الكتّاب، إلى مناقشة شؤون الحياة اليومية، وإلى محاولات مستمرة للحفاظ على الحياة والكرامة والتوازن.. يغرقون في مستنقع التفكير في الطارئ، في حين كان بإمكانهم، في ظل أوضاع مستقرّة، أن يدفعوا البلاد إلى طريق التطوّر من أجل حياة أفضل للإنسان في تلك البقعة من العالم، ولكن هيهات.

نحن السوريين، عانينا من الانكسارات المزمنة، وعزّزت الخيبةَ الأسئلةُ اللانهائية التي تبحث عن أجوبة من غير جدوى

يحاول هؤلاء كسر طوق الحصار حولهم، وتحاول الفئات الأخرى الحفاظ على الأوضاع كما هي عليه كي تستمر مكاسبهم بازدياد.

نحن السوريين، عانينا من الانكسارات المزمنة، وعزّزت الخيبةَ الأسئلةُ اللانهائية التي تبحث عن أجوبة من غير جدوى، وشهدنا خذلان المجتمع الدولي الذي تحرّكه سياسات المكاسب، وآن لنا أن نعيد النظر في ثوابتنا وفي آليات تفكيرنا وتحركاتنا، كي نخرج أنفسنا من الهوة العميقة التي رمانا فيها نظام الأسد العميل.

ولنا فيمن سبقونا أسوة حسنة، فها هو وزير خارجية البوسنة والهرسك "حارث سيلاذيتش في شاهد على العصر" يتحدث عن تجربة "علي عزت بيغوفيتش" فيقول: في حرب البوسنة كان الهدف الأول لعلي عزت بيغوفيتش هو إيقاف شلال الدم البوسني وليس محاكمة سلوبودان مليوسوفيتش على جرائمه. ولم ينتظر علي عزت ورفاقه أن تأتي الأمم المتحدة وتحميهم من الصرب، بل سعوا إلى صنع علاقات خارجية وذهبوا إلى كل مكان لأجل البوسنة وشعبها.

الصرب كان لديهم علاقات مع الجميع، أما البوسنة فكانت علاقاتها الخارجية صفراً حينما استلم بيغوفتش السلطة قبل الحرب بقليل. وخلال الحرب وبفترة وجيزة أقام علاقات مع أكثر من ثلاثين دولة خارجية وهذا ساعده في إيقاف الحرب. ولم يكن تعامل علي عزت ورفاقه مع المجتمع الدولي تعاملاً صلباً متخشباً، بل كانوا يعرفون حقيقة الأمم المتحدة، وكان يقول حارث سيلاذيتش: الوازع الأخلاقي ليس له أي تأثير ولا وجود له في السياسة الغربية. إن الأمم المتحدة تخطئ ثم تعتذر ثم تكرر الخطأ.

وحينما وقعت مجرزة سربرنيتسا فقدت الأمم المتحدة شرعيتها لأن سربرنيتسا كانت تحت حمايتها، ورغم ذلك لم يتوقف علي عزت ورفاقه عن العمل السياسي لأنهم يعرفون بالأساس من هي الأمم المتحدة وليس هناك مخرج سوى مواصلة العمل معها.

لم تكن البوسنة دولة ذات أهمية بالنسبة لأميركا ولذا كان إقناعهم بالتدخل أمراً عسيراً لأن الدول لا تتدخل إلا حيث وُجدت مصالحها، لكن مع ذلك لم يشعر علي عزت ورفاقه باليأس وكافح وزير خارجيته حارث كفاح المستميت في أروقة الأمم المتحدة حتى يحصلوا على مساعدة، أدناها رفع حظر التسلح عنهم.

بالطبع، لم يكن حزب علي عزت بيغوفيتش ملائكياً بل كان بينهم اختلاف في وجهات النظر، ولكنّهم حرّموا على أنفسهم الانقسام والاختلاف وقت الحرب.

كانت البوسنة وشعبها ووحدة أراضيها هي الهمّ الأوّل والأخير لعلي عزت ورفاقه، ولذا قبلوا بمعاهدة "دايتون" رغم أنها لصالح الصرب

قال حارث: كنت اختلف مع علي عزت لكن لا أتكلم بهذا الخلاف في الخارج أبداً، لأننا كنا في حرب، وفي الحرب لا توجد أحزاب بل كلنا حزب واحد.

كانت البوسنة وشعبها ووحدة أراضيها هي الهمّ الأوّل والأخير لعلي عزت ورفاقه، ولذا قبلوا بمعاهدة "دايتون" رغم أنها لصالح الصرب، واعتبروها نجاحاً لهم لأنها حققت لهم هدفهم الكبير وهو وحدة أراضي البوسنة وإيقاف نزيف الدم البوسني.

كما لم يستهن علي عزت ورفاقه بالزمن، وكانوا يدركون أن الحرب كلما طالت كان ذلك ضرراً لمصلحة البوسنة، ولذا كانت تحرّكاتهم سريعة منذ البداية وكانوا يواصلون الليل بالنهار في سبيل إيجاد مخرج مناسب وإيقاف سريع لإطلاق النار.

كان علي عزت ورفاقه يدركون أن الله سندهم الوحيد، ولم يعتمدوا على ما يقومون به من أعمال وهي واجبة عليهم، بل لجؤوا إليه تعالى وطلبوا منه العون والنصر. فكانوا يأخذون بالأسباب كأنها كل شيء ثم يتوكلون على الله كأنها ليست بشيء.

وهكذا قال حارث: لولا التدخل الإلهي ما كنا سنخرج من هذه الحرب، لأن كل شيء كان ضدنا. وها هي سوريا الجريحة تعاني من الواقع السيء نفسه، ولابد لنا، للخروج من عنق الزجاجة، أن نتعلّم الدروس من الآخرين، ونسعى، بإمكانيتنا الذاتية، لنتخلّص من ربقة الاستبداد والتبعيّة.