"دولة إدلب" المحكومة مدنياً

2021.10.26 | 06:22 دمشق

ayyamsyria.net-2018-01-31_08-19-08_185596.jpg
+A
حجم الخط
-A

خلال أمسية أدبيّة، قدّم أحد الشعراء لقصيدته بأنها "غزلية"، إثر هذا التصريح غير المألوف، ساد التشنج القاعة وتمتم أحد الحاضرين: "سلامٌ قولاً من رب رحيم. الله يجعل النهاية على خير". في نهاية القصيدة تنفّس الجميع الصعداء فالشاعر لم يذكر من المحبوبة المُتَغزّل بها إلا سواد العين، ورقّة القوام الذي كان مستوراً بما لا يصفُ ولا يشفّ، وخرج الجميع سالمين من شبهة الزنا بصورة شعرية. حدث هذا يوماً في "دولة إدلب" تحت حكم هيئة تحرير الشام. حيث المنع يشمل الأدب الحرّ الذي قد توحي استعاراته بمشاهد أو أفكار تثير الغرائز والشهوات، أو تطرح أسئلة تودي بالعقول إلى مهالك الضلال، وإن شذّت أمسية شعرية فعلى منظميها ضمان التزام النصوص بالطروحات الموافقة لمنهج السلف وسلوك التابعين. بالتأكيد لن تكون هناك حياة ثقافية بمعناها المألوف في شروط كهذه، فهي غائبة في مناخ يحرّم الموسيقا، ونحت المخلوقات ذات الروح. وبطبيعة الحال فإن المنع يشمل الأدب. بعض الرسم مسموح ضمن الضوابط ذاتها، والمسرحُ كذلك على أن يقوم الذكور بأداء أدوار الإناث خلال التمثيل. الغناءُ ممنوع، والمسموح هو الإنشاد من دون موسيقا، والأهم من دون حضور صوت المرأة الجالب للشياطين.

أعلن مندوبو الهيئة في بداية المؤتمر برنامجهم من خلال كلماتٍ تمّ إلقاؤها. فوجئ معظم الحاضرين بالسقف العالي والمرن للطرح المعروض، الذي لا يشبه أصحاب الكلمات

اليوم مضت ثلاث سنوات على إبعاد حركة نور الدين زنكي من ريف حلب الغربي، باتجاه مناطق غصن الزيتون ودرع الفرات، لتخلو الساحة من أي منافس لهيئة تحرير الشام على السلطة والحكم، وقد سبق ذلك بسنة إقصاؤهم للخصم الأعتى حركة أحرار الشام التي كانت المسيطر الأكبر على منطقة نفوذ الهيئة الحالي في إدلب وريفها وعدة قرى وبلدات من أرياف حلب واللاذقية وحماة. إثر ذلك دعت الهيئة إلى "المؤتمر السوري العام" بحسب تسميتها. انعقد المؤتمر في مبنى يقع بالقرب من معبر باب الهوى. حضر المؤتمر حينذاك أكثر من خمسمئة شخص بينهم وجهاء مدن وزعامات قبلية ودينية من عدة محافظات سورية، وتجار وإعلاميون وضباط منشقون، كان أشهرهم العقيد رياض الأسعد.

أعلن مندوبو الهيئة في بداية المؤتمر برنامجهم من خلال كلماتٍ تمّ إلقاؤها. فوجئ معظم الحاضرين بالسقف العالي والمرن للطرح المعروض، الذي لا يشبه أصحاب الكلمات. مما قالوه يومئذ: "لقد أنجزنا عملية التحرير، وأنهينا التشرذم الفصائلي، وعليكم كنُخب أن تأخذوا دوركم في قيادة المرحلة على كافة الأصعدة". تشكلت هيئة تأسيسية اختارت الدكتور "محمد الشيخ" رئيساً للوزراء، لتصله بعدها قائمة بأسماء وزرائه مصدرها مجلس شورى الهيئة. سريعٌ كان إدراك الدكتور الشيخ للمسرحية، ولم يتطلب الأمر إلا عدة شهور ليستقيل مصرّحاً بجرأة تحسب له، أنّ صلاحيات حكومته بالكامل لا تعادل صلاحية أصغر أمير من أمراء هيئة تحرير الشام. خلفه بعدها الدكتور فواز هلال بذات قائمة وزراء الشيخ تقريباً، ليغادر منصبه بعدها لذات الصعوبات التي لقيها سلفه. حتى الآن لا يزال الدكتور علي كدّه صامداً إن صحّ استخدام مصطلح الصمود في هذا المقام. على صعيد التمثيل الشعبي صرّح الأمير "أبو سعيد راس الحصن" أن جميع مكونات الشعب ممثلون في مجالس ثلاثة: "الشورى" و"الصلح والأعيان" و"مجلس القبائل" علماً أنّ عضوية المجالس الثلاث تمرُّ عبر محدّدات الهيئة ومجلس أهل الحل والعقد فيها، من دون إشهار أسباب القبول أو الرفض، خصوصاً حين يأتي الرفض لأسباب أمنية.

يبلغُ عدد سكان دولة الهيئة نحو ثلاثة ملايين نسمة. كتلتهم الأكبر هي المخيمات المتصلة من الدانا إلى أطمة والتفافاً باتجاه عقربات وصولاً إلى سلقين، بالإضافة إلى سكان المدن والبلدات والقرى. تعتمدُ غالبية هؤلاء الناس في معيشتها على المساعدات الإنسانية ورواتب المنظمات، ثم كتلة الحوالات التي تأتيهم من أقاربهم المنتشرين في أربع جهات الأرض. الهيئة تقاسم هؤلاء في جميع هذه المداخيل من خلال احتكار عجلة الاقتصاد والخدمات المأجورة بالكامل. الاستيراد حصريٌّ لتجار يصفهم سكان "الدولة" بأنهم صورييون ليسوا إلا واجهة لأمراء الهيئة. ويبدو أن هذه الحقيقة لم تعد سراً خافياً على أحد. احتكار كل أمير لاستيراد إحدى المواد يجعل المواطن يستعيد تجربة النظام ورامي مخلوف في هذا الحقل. تريد أن تستورد السكر؟ ليس لك أن تستجره من خارج حدود الإمارة، بل عليك المرور عبر المستورد الحصري، والأمر ينطبق على استيراد الطحين والثياب والزيت والشاي والسيارات وقطع الغيار. أما استيراد المشتقات البترولية فهو محصور بشركتي "وتد، كاف" العائدتين لأشخاص مدنيين يتقاضون راتباً شهرياً مقطوعاً كأي موظف، أما الأرباح فسوف تذهب لأيدٍ أمينة. هنا أيضاً نستعيد تجربة النفط السوري مع نظام الأسد لسنوات طويلة.

تمتلك الهيئة معظم أفران الخبز والمولدات الكهربائية التي كانت المصدر الوحيد للكهرباء، قبل دخول شركة Green التركية، المُلزمة بدورها تقديم حصة مقطوعة للأيدي الأمينة ذاتها. مؤسسات الكهرباء تتبع لحكومة الإنقاذ، لكنّ مهمة هذه المؤسسات تشغيلية فقط، وينحصر عمل موظفيها في الصيانة والجباية التي تصبّ في صندوق بيت مال المسلمين، بعيداً عن بدعة الموازنة العامة وجذورها العلمانية الكافرة. إدارة المعابر الشرعية (باب الهوى- جبل سمعان- دير بلوط) تتبع للإدارة العامة للمعابر، وهي مؤسسة فوق حكومية. لا يعلم عائداتها الضخمة إلا أمراء الصف الأول. الأمراء الذين يجهل كل الشعب أسماءهم وأصولهم، وإن تسرّب شيء للعامة والدهماء، فهو في حدود "أبي فلان" لا أكثر، وحتى هذا الترف لا يبلغه إلا من استرق السمع.

المفارقة هو أن الهيئة لا تتدخل في مجال التعليم إلا كجهاز رقابيّ. فقطاع التعليم مستهلك نَهِم، وليس له أي عائد ماليّ آنيّ. طبعاً مع ضمان التزام المدارس والجامعات بالشريعة ومنهج السلف، إن كان من ناحية المناهج أو سلوك وزيّ المدرسين والإداريين، وحتى طلاب رياض الأطفال. من باب الإنصاف فقد غضّت الهيئة النظر عن المنظمات المدنية، وسمحت لها بتقديم رواتب القطاع التعليمي، وكلّ لوجستيات العملية التعليمية، بل وسمحت بتأمين الكتب المدرسية من "الحكومة المؤقتة" الجارة التي تتبع للائتلاف! وطبعاً على المنظمات الداعمة أن تراعي حقّ الهيئة في فرض بعض المدرسين والإداريين، كنسبة مقطوعة مستحقة، على أن لا يخضع تعيين هؤلاء لامتحانات القبول لضمان الكفاءة، فالجهة التي فرضتهم تمتلك الأهلية الكاملة. لا ينطبق الأمر على جامعة إدلب فالدراسة فيها ليست مجانية، ويتم تحصيل رواتب مدرسيها من أقساط سنوية يدفعها الطلاب. ومثل قطاع التعليم ولنفس الأسباب، فإن القطاع الصحي متروك للمنظمات المدعومة غربياً.

تحاول هيئة تحرير الشام تقديم نفسها بمظهر الزاهد في السلطة، والراغب بدخول العصر، بادعاء أن من يقود المؤسسات أشخاص مدنيون أكاديميون

من نافل القول أن تشكيل الأحزاب ممنوع، وطبعاً هذا لا يحتاج إلى قانون معلن، لكن تشكيل ما يشبه النقابات مسموح، بآلية تتماهى وتتناغم مع فكر الهيئة ومنهجها، من خلال فلترة يخضع لها المتقدمون مع غموض يكتنف معايير الرفض والقبول. هذا لم يمنع الهيئة من اقتحام اجتماع لنقابات من حلب وإدلب كان هدفه توحيدها تحت مظلة اتحاد عام. المفارقة أنه في ظل هذا الواقع السلطوي الذي لا يمتُّ لمفهوم الدولة بصلة، ومع وجود مئات المختفين قسرياً لديها، تحاول هيئة تحرير الشام تقديم نفسها بمظهر الزاهد في السلطة، والراغب بدخول العصر، بادّعاء أن من يقود المؤسسات أشخاص مدنيون أكاديميون، لا ينتمون لكيان الهيئة، بل إن بعضهم يخالف الهيئة أيديولوجياً وفكرياً بحسب زعم "أبو حفص بنش" شقيق زوجة الجولاني، وأحد الأمراء النافذين جداً في الجهاز الأمني الاستخباري، الذي لا يتبع لوزارة الداخلية، فالداخلية وزارة تختص بالجنايات والمرور ودائرة الأحوال الشخصية "النفوس" وحسب.

في سبيل استبعاد شبح التصنيف الدولي للكيانات الإرهابية، وخصوصاً رداً على دأب روسيا اعتبار إدلب هدفاً مشروعاً لكونها خاضعة لتنظيم القاعدة بحسب الوصف الروسي، تسعى الهيئة لتقديم صورة عن الوجه المدني لحكمها، مستدلّة في كل مرة بمحاربتها لفصائل متطرفة كجند الأقصى وحراس الدين، وتجميدها لأمراء متشددين من مثل أبي اليقظان المصري وأبي مالك التلي، قبل أن يسقط كثير من هذه الاستدلالات بتصريحات "أبو العبد أشداء" الأمير الذي فضح شيئاً من المستور، في فيديو مصور شاهده الجميع. عن المجتمع الإسلامي الطاهر الذي تبنيه الهيئة، يقول رجل خفيف الظل في إدلب: "الحمد لله, سندخل الجنة بالرغم عنّا، فلا درب للذنوب كي تصل إلينا" ثم يستدرك متسائلاً: "ولكن هل تُحسب الحسنات لنا، إن كنا نقوم بها رغماً عنا؟".