دول العالم ببن شعبوية ترامب وانفتاح كيسنجر

2020.04.30 | 00:39 دمشق

2020-04-28t202615z_359127294_rc2wdg9auigh_rtrmadp_3_health-coronavirus-usa_1.jpg
+A
حجم الخط
-A

يتحدى الرئيس الأميركي دونالد ترامب، أحد أكثر المفكرين الأميركيين استراتيجياً وسياسياً. ترامب يتحدى هنري كيسنجر، الذي كتب إحدى أهم رسائله، ولخص فيها نظرته إلى العالم ما بعد كورونا. يستكمل كيسنجر برسالته الجديدة، نظريته حول النظام العالمي الجديد المفترض أن يكون قائماً على التكافل بين الأمم، وليس على النزاعات التي استمرت طيلة القرن الفائت. والتكافل الأممي لديه، يعني الذهاب إلى ما يشبه الوحدة العالمية في الانفتاح والتعاون، بدلاً من الإنعزال والإنغلاق. وفعلاً يعيش العالم اليوم تحدياً صارخاً، بين الانعزالية والإنسانية المتخطية لأي حدود.

مرّ القرن الأخير بحقبات متعددة، لم تصل إلى ما ترتقي إليه طموحات الناس في كل أصقاع العالم. لم يلب صراع الثنائية القطبية أي من هذه الطموحات. ولا هوامش الصراعات التي تفرّعت من هذا الانقسام. ثارت الناس على الإمبراطوريات التاريخية، وأنتجت الدول القومية بالتزامن مع الثورة الصناعية. استمرت بواطن النفوذ بالتوسع إلى انفجار الحرب العالمية الثانية، وما نتج فيها وبعدها، من تعزيز لمنطق الدولة القومية على طرفي صراع القطبين. انتقل العالم، من الإمبراطوريات، إلى الدول القومية الوطنية. انتصار الأحادية القطبية لم يكن نهائياً. ليدخل العالم مرحلة جديدة عنوانها الحرب على الإرهاب، والتي حملت توسعاً أميركياً شاملاً في كل بقاع الأرض، عسكرياً، إلى الجانب السيطرة الاقتصادية والمالية.

جاءت الأزمة المالية الكبرى في العام 2008، فأصابت نظام الأحادية القطبية بضربة قاتلة، أنتجت الأزمة نموذج باراك أوباما، الذي قدّم نفسه كصاحب مشروع الاهتمام بالداخل الأميركي. وأخذ نزعة التنسيق مع الخصوم التاريخيين للولايات المتحدة الأميركية. قدّم نموذج التعاون مع الدول كروسيا، وسعيه الدائم لإبرام اتفاق نووي مع إيران. انسحب من العراق، وأفغانستان، بإيحاء ملموس للانكفاء العسكري. إيلاء أوباما الاهتمام بالداخل الأميركي، أنتج دونالد ترامب، المتسم بطابع انعزالي، تحت شعار أميركا أولاً. ليأتي وباء كورونا على طريق تكريس هذا الانعزال، بتقديس مبدأ مكافحة الهجرة ومواجهة الانفتاح.

 

ترامب، ليس بعيداً عن بوريس جونسون والبريكس البريطاني، وهذا لا يختلف عن معاناة الدول الأوروبية، التي تتنامى فيها نزعات يمينية تصر على إغلاق الحدود والمضي أكثر نحو الانعزال. وذلك يتحدى المنطق. هنا يقف العالم أجمع امام مستقبل صراع بين فكرتين، الانعزال التي يرعاها ترامب، والانفتاح التي ينصح بها هنري كيسنجر.

في النوائب، تذهب الناس إلى خيارات غير واعية. تختار بلا وعيها من يحفزها على الصمود الأسطوري وإن بشعارات واهية، كشعار الأعراق السامية، أو الجماعات الوطنية المتقدمة على الأخرى. وهذا يفرض تحدياً من نوع جديد سيكون بين الديمقراطية والليبرالية. فالديمقراطية مثلاً أنتجت للدول القومية، لأنها تفترض تجانساً بين جماعة وطنية معينة، وتبنى الدولة على أساس عقد اجتماعي بين مكونات هذه الجماعة، ما يؤدي إلى إتاحة الحركة والتنوع ضمنها، كما أن صراع المصالح فيها يفترض ان يكون مضبوطاً بحدود وحدة المجتمع. أما الليبرالية كفكرة، فهي تبدأ من الفرد ولا تعنى بأي حدود وطنية أو دولتية. فتجلّت المشكلة في المزاوجة بين الليبرالية والديمقراطية، وهذا يحتاج إلى إعادة توزيع مقبولة ضمن الجماعة مقابل حفظ التناغم الثقافي للجماعة التي قام عليها هذا التزاوج.

في النوائب، تذهب الناس إلى خيارات غير واعية. تختار بلا وعيها من يحفزها على الصمود الأسطوري وإن بشعارات واهية

جاء الاتفاق على إنشاء الاتحاد الأوروبي للهروب من حالة سوء التوزيع والانسجام في هذه المزاوجة، فكان الهدف هو الهروب من هذه الأزمة إلى جسم أوسع، لكن الأزمة ما لبثت أن تجددت، بأشكال أخرى فيما بعد كالبريكست والأزمات الاقتصادية، وصعود نجم اليمين المتطرف. وهذا المنطق نفسه ينطبق على أميركا، التي لطالما كانت تحتمي بفكرة "الوحدة في التنوع" أي القدرة على تعزيز التنوع داخل المجتمع الأميركي هي نقطة قوة لأميركا. لكن هذا المفهوم ما لبث أن بدأ بالتضاءل، عبر رفع شعار أميركا اولاً من قبل أوباما والسياسات التي اتبعها ولاقت رواجاً وقبولاً في الشارع الأميركي، وبعده ترامب، الذي ذهب إلى تجسيدها، بصراحة ووضوح أكبر، كقراره بناء الجدار مع المكسيك او منع استقبال مهاجرين من جنسيات مختلفة.

في هذا الصراع، تدفع المجتمعات أثمانا كثيرة، لأن الضياع هو الذي يفرض نفسه على الهوية السياسية لهذه المجتمعات. فمثلاً بعد سقوط الموجة العالمية التي سادت منذ الثمانينيات في عهدي مارغريت تاتشر ورونالد ريغان، والتي ارتكزت على التساهل مع الرساميل والتوظيفات، لأجل إبقاء الاقتصادات بحالات جيدة. وفتح المجال أمام قوى غير وطنية أو قومية للتحكم بمسارات ومفاصل السياسات في الدول. ما أنتج نموذجاً جديداً من متبوئي السلطة. الذين ليس بالضرورة أن يكونوا مهتمين بالسياسة كفكرة إنما كباب من أبواب الدخول إلى الحقل العام لتلبية طموحات اقتصادية. ما يؤدي إلى تداعيات وتبعات على أساس "الحكم" بطبيعته وتحولاته، ليصبح باهتاً أو مترهلاً.

هذا الترهّل السياسي يأتي كنتيجة لتحول السلطة إلى فعل مثابرة وإصرار، وسقوط مبدأ "طالب الولاية لا يولّى". فأصبحت السلطة عبارة عن عمل وجهد يبذله طالبها الذي يتمتّع بإمكانات لا علاقة لها بأي كفاءة أخرى، سوى أنها ترتبط ببذل كل جهد مهما كان للوصول إلى السلطة، وتوافر المقومات المالية والشعبوية. والمشهد العام لنقاد السلطة او التفاهة التي تصيبها، يدلّ على أنهم غير جاهزين للدخول في هذه المبارزة مع التافهين وتكبد كلف هذه المواجهة لعلمهم أن هذا النوع من المواجهة قابل لأن يكلّفهم حياتهم أو يستنزفها. فلم يبد أي من هؤلاء النقاد أو المفكرين أي استعداد لجعل البنية التافهة للسلطة قضية أساسية يسعى وراءها. ما وضع هؤلاء أمام خيارين، إما الانكفاء أو التحول إلى جزء من التركيبة القائمة على هذا الوهج.

انعدام ارتباط القيم بالسياسة، هو الذي ينتج أزمة وجودية لدى النظام العالمي الحالي في ظل تفشي وباء كورونا. فمن دون قيم، تصبح السياسة عبارة عن نوع من التشاطر، كنموذج برلوسكوني، الذي يقوم على التحايل، وهذا يقوم على استخدام المكيافيلية من دون ضوابط، أو تعرية المكيافيلية وجعلها نسخة رديئة تحصر السياسة بالوصول إلى السلطة ولا تبقيها وسيلة للخدمة العامة، ما أدى إلى نوع من اللاثقة بالسياسة والسياسيين. وهذا ينتج أيضاً عن ضعف الديمقراطية ومعناها، بنتيجة تطبيقها في مجتمعات بلا مراتب أو طبقات أو تقسيم للأدوار، يجعل المساواة بين المتعلمين وغير المتعلمين، المقتدرين وغير المقتدرين، مساواة صورية. هنا تتحول الديمقراطية إلى نموذج بلا قدرة على تدبير الانتظام السياسي، وعمادها الأساسي هو الشعبوية فقط.

أزمة كورونا ستطرح التحدي من جديد، سيترافق مع حراكات اجتماعية جديدة، تفضح عدم قدرة الأحزاب التقليدية على التعبير عن مصالح هذه الفئات الاجتماعية المختلفة. ويمكن اختصار هذه الفكرة بأنها ضبابية للحالة الاجتماعية، إذ لم يعد هناك إمكانية لفهم التعبير السياسي، أو كيفية التركيبة المجتمعية. التي فقدت إيمانها بآلية عمل النظام الديمقراطي السائد وفقدان الإيمان بالقيم وبالمنظومة الاقتصادية، بالإضافة إلى فقدان الإيمان بأحزاب تاريخية كانت تشكل ضمانة للإطار النضالوي. هنا يكمن التحدّي، بين استمرار هذا الترهل، أو الفوز بنموذج جديد يعيد الاعتبار للقيمة الفكرية في العمل السياسي، بخلاف مع تفاهة الشعبويين.