دوغين وروسيا البوتينية.. الطيب والشرس والقبيح

2021.11.28 | 06:02 دمشق

2018-01-14-02.56.26-2.jpg
+A
حجم الخط
-A

يشعر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالألم والحزن من جراء "المعاملة القاسية تجاه المهاجرين من قبل الحرس الحدودي البولندي"، وأفرد لهذا الموضوع حيزاً مهماً في مكالمته مع نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون يوم الأحد الماضي.

وقبل ذلك بيوم واحد؛ استنكر بوتين في مقابلة مع موقع "روسيا 24" قمع الجنود البولنديين لطالبي اللجوء على الحدود مع بيلاروسيا، وأضاف: "طوال الوقت كنا نسمع أن القضايا الإنسانية يجب أن تظل في المقدمة. ولكن عندما يقوم حرس الحدود البولنديون وممثلو القوات المسلحة بضرب هؤلاء المهاجرين المحتملين، والجيش يطلق النار فوق رؤوسهم، وصفارات الإنذار تطلق في الليل والأضواء في أماكنهم -حيث الأطفال والنساء في الأشهر الأخيرة من الحملة - بطريقة ما هذا لا يتناسب مع الأفكار الإنسانية، التي من المفترض أنها تكمن وراء السياسة الكاملة لجيراننا الغربيين". إنه قناع الوجه الطيب لقيصر روسيا الجديد بوتين، لكن ماذا عن وجوهه الأخرى.

تزامناً مع تصاعد أزمة اللاجئين على الحدود البيلاروسية البولندية، ارتكبت الطائرات الحربية الروسية مجزرة جديدة في بلدة كفريا شمال إدلب، ذهبت ضحيتها عائلة كاملة، أب وأم وثلاثة أطفال، في استمرار لمسلسل المجازر التي تقوم بها القوات الروسية وقوات النظام وحليفتها إيران والميليشيات المرتبطة بها، غير أن دماء السوريين لا تحرك مشاعر الرئيس بوتين أو أي مسؤول روسي، فالقتل مباح في قاموس السياسة البوتينية مادام ذلك يخدم الأجندة الروسية، كأحد التعبيرات عن الوجه القبيح لسياسات قيصر الكرملين.

وفي حين يتهم الكرملين الغرب بالتسبب بأزمة اللاجئين الأخيرة بعد تدمير بلدان، ويأسف لحالهم، من دون أن يحمل حليفه ألكسندر لوكاشينكو أي مسؤولية عن استخدام اللاجئين سلاحا لإجبار أوروبا على التفاوض، يتجاهل بوتين وحاشيته استهداف الطائرات الروسية المشافي والمدارس وتدمير البنية التحتية في سوريا في محاكاة لحرب الشيشان وسياسة الأرض المحروقة، والتي تسببت في موجات لجوء للسوريين متواصلة منذ خريف 2015.

ويفخر الرئيس الروسي بأن روسيا تطور برامج جديدة لتسليح الجيش الروسي، تراعي النزعة العالمية الرئيسية في تطور الآليات القتالية، وأكد بوتين في اجتماع لهيئة الصناعة العسكرية، في العاشر من الشهر الجاري، أن القوات الروسية تتسلم أحدث أنواع الأسلحة، "التي وفقا لمواصفاتها لا تخلف عن نظيراتها الأجنبية بل وتتجاوزها في عدد من المعايير".

"الطيب والشرس والقبيح" صفات ثلاثة تشكِّل مجتمعة وجوهاً متداخلة تعبِّر عن كنه السياسات الروسية في ظل حكم بوتين

وأوضح بوتين، حينذاك، أن قائمة هذه الأسلحة الروسية منقطعة النظير تشمل خاصة مقاتلة الجيل الخامس "سو-57" والغواصة النووية من الجيل الرابع "الأمير فلاديمير" ومنظومة الدفاع الجوي "إس-500" واعتبر أن هذه الاتجاهات سيكون لديها تأثير حاسم على الصورة والقدرات القتالية المستقبلية للقوات المسلحة الروسية. وهكذا يقدّم بوتين الوجه الشرس لسياساته.

"الطيب والشرس والقبيح" صفات ثلاثة تشكِّل مجتمعة وجوهاً متداخلة تعبِّر عن كنه السياسات الروسية في ظل حكم بوتين، والصفات الثلاثة هي عنوان فيلم إيطالي في ستينيات القرن الماضي من إخراج سرجيو ليون وبطولة نخبة من نجوم هوليود كلينت استوود، لي فان كليف، إيلاي والاك، وبإسقاط سردية قصته لمؤلفها ليون وفينشينزوني، كما جسدتها الشخصيات الرئيسية في سلوكها وأفكارها، على سياسات الرئيس بوتين، وتطورها منذ عام 2000، يتضح مدى تطابقها مع المنطلقات النظرية لفكر وفلسفة المفكر القومي ألكسندر دوغين، الذي كان له، وما زال، التأثير الأكبر على الرئيس بوتين والنخب السياسية والعسكرية المحيطة به، إلى درجة أن كثيرا من المختصين بالشأن الروسي يعتقدون أن فهم السياسات البوتينية ومسارها، وتوقع ما قد يطرأ عليها من تحولات، مدخله التدقيق في أفكار دوغين، ليس فقط في التوجهات الاستراتيجية العامة للدولة، بل أيضاً في اشتقاقات الكرملين السياسية، وطريقة تعاطيه مع العديد من الملفات الساخنة مثل الملفين السوري والأوكراني.

بنى دوغين نظريته المسماة بـ"الأوراسية الجديدة" على وجود خصوصية جيوسياسية وثقافية روسية تؤهل روسيا، بطبيعتها الأرثوذكسية المحافظة، لبناء إمبراطورية أوراسية، وقيادة قطب أوراسي بالتحالف مع الصين والهند وتركيا وإيران، ويضم في فضائه دولاً في العمق الآسيوي وشرق أوروبا وصولاً إلى ألمانيا، يمكن أن تشكِّل عبر تحالفات بينها مستقبلاً أقطاباً مستقلة إلى جانب روسيا والصين، في مواجهة القطبية الأحادية الأميركية والعولمة، ورفض الفكر الحداثي الليبرالي لتعارضه، وفق ما يطرحه دوغين، مع التعددية وهوية الشعوب، ولأن "الحداثة أفقها العدم"، ولا وجود لقيم عالمية مشتركة.

عموماً يرى دوغين أن محرك الصراعات في العالم يرتبط بالمصالح الجيوسياسية وصراع الحضارات وليس الخلافات الإيدلوجية أو القيم ومدى اتساق سياسات الأنظمة مع المواثيق والأعراف الدولية.

من هذه الزاوية يمكن فهم تبرير دوغين للتدخل العسكري الروسي إلى جانب نظام بشار الأسد، وارتكاب جرائم مروعة بحق المدنيين السوريين، حيث زعم في برنامج "المقابلة"، على شاشة الجزيرة يوم الأحد الماضي، أن المفاهيم التي تقوم عليها الصراعات السياسية "لا تتضمن تعريفاً محدداً للديكتاتور أو الإرهابي"، وأن دعم الغرب للمعارضة السورية يعد سبباً كافياً لوقوف روسيا إلى جانب نظام الأسد، بصرف النظر عن أحقية المطالب التي رفعها الشعب السوري، وعن الجرائم التي ارتكبها النظام، أو ارتكبتها روسيا من أجل منع سقوطه ومن ثم إعادة تعويمه. وهي سياسة تجمع بين وجهين أولهما قبيح والثاني شرس لا تحكمهما أي ضوابط أخلاقية أو قيم إنسانية.

ولا يخفي دوغين، رغم أصوله الأوكرانية، أنه أول من دعا إلى تقسيم أوكرانيا إلى دولتين (غربية وشرقية)، وسيطرة روسيا على شبه جزيرة القرم، لأن بقاء أوكرانيا موحدة، مع نزعة استقلالية عن روسيا والتقرب من الغرب، يلحق ضرراً كبيراً بمشروع الإمبراطورية الأوراسية الروسية، ويجزم دوغين أن أوكرانيا ستقسَّم مستقبلاً لا محالة.

تعدُّ العلاقات المتطورة بين الكرملين والأحزاب والجماعات اليمينية واليسارية المتطرفة، على حد سواء، في أوروبا، ودعمها سياسياً ومالياً، ترجمة عملية لأفكار دوغين

وبعد تقلبات في مواقف دوغين تجاه دولة الاحتلال الإسرائيلي والمشروع الصهيوني انتهى به المطاف إلى الاقتراب من إيدلوجية اليمين الإسرائيلي المتطرف، لأنها معادية لمفاهيم وقيم الحداثة والليبرالية. ويرى في المستوطنين الذين هاجروا إلى إسرائيل بأنهم "يهود أخيار"، لأنهم انحازوا لـ(الحفاظ على خصوصيتهم اليهودية)، على عكس من فضلوا البقاء في بلدانهم الأصلية وقبلوا بالتنازل عن خصوصيتهم الدينية والثقافية، والاندماج في المجتمعات التي يعيشون فيها، بما فيها المجتمع الروسي ومجتمعات بلدان الاتحاد السوفييتي السابق، وهذا ما يجعلهم (سيئين) من وجهة نظره.

وتعدُّ العلاقات المتطورة بين الكرملين والأحزاب والجماعات اليمينية واليسارية المتطرفة، على حد سواء، في أوروبا، ودعمها سياسياً ومالياً، ترجمة عملية لأفكار دوغين، الذي لعب أيضاً دور العراب لإقامة تحالف بين موسكو وتلك الأحزاب والجماعات، واستغلال التقارب الفكري معها خدمة للمصالح الروسية، وبغية إضعاف دول الاتحاد الأوروبي وتقويضها من الداخل.

في فيلم "الطيب والشرس والقبيح" تجمع بين أبطاله الثلاث خصال الخداع والجشع والدموية والاستعداد للتحالف مع الشيطان في سبيل تحقيق المصالح الخاصة، دون أي اعتبار للأخلاق المجتمعية أو القيم الإنسانية، ولا فارق بينهم كأنهم جميعاً شخصية واحدة تستخدم ثلاثة أقنعة، رغم اختلاف مظهرهم والأدوار التي يؤدونها.

إلا أن هذا الفيلم صنف لاحقاً في قائمة أهم أيقونات كلاسيكيات السينما في القرن العشرين، لأنه فضح وعرى العنف في صناعة أسطورة الغرب الأميركي. أما بالنسبة للنهج البوتيني وخلفيته الفكرية والفلسفية اليمينية والشعبوية المبتذلة، التي وضع أسسها دوغين، فكلاهما يفضح الآخر، لكن ريما يطول انتظار المشهد الختامي لمآل الاشتقاقات القبيحة والشرسة التي بنيت عليهما، من حروب ودعم للديكتاتوريات والانقلابات والتطرف، جرياً وراء حلم بناء إمبراطورية أوراسية، باستخدام قوتها الغاشمة، غير أن شواهد لا حصر لها في التاريخ تؤكد أن نهايتها الفشل، وسيسقط قناع الطيبة الزائفة.