دكتاتورهم الطيب ودكتاتورنا المجرم

2021.03.02 | 00:04 دمشق

636568775991709477.jpg
+A
حجم الخط
-A

لن يعدم "نورييغا" تعاطف الكثير من اليساريين حول العالم، لحظة اعتقلته القوات الأميركية، ومن ثم حاكمته في الولايات المتحدة بتهمة تجارة المخدرات وحكمت عليه بالسجن ثلاثين عاماً (خففت فيما بعد إلى سبعة عشر عاماً). نعم، مانويل نورييغا رئيس باناما العميل التاريخي للسي أي إي، وتاجر السلاح سيصبح بطلاً لدى الكثير من اليساريين حول العالم فقط لأن زعيمة الإمبريالية العالمية اعتقلته بعد أن تخلّت عن خدماته.

يدين مانويل نورييغا زعيم بناما ببقائه في السلطة إلى المخابرات المركزية الأميركية، قبل غزوها لباناما عام 1989. زوّد نورييغا وكالة المخابرات الأميركية بالمعلومات مقابل المال عن حكومة كوبا الشيوعية، وعن القادة الساندينيين اليساريين في نيكاراغوا، وكان المصدر الأهم للمعلومات عن أميركا اللاتينية. وهو إلى ذلك لم يبخل على الطرف الكوبي بتزويده بمعلومات عن الأميركيين، بل وذهبت بعض المصادر، إلى تأكيد بيعه خمسة آلاف جواز سفر بانامي للحكومة الكوبية، ليستخدمها ضباط المخابرات في عملياتهم ضد الولايات المتحدة الأميركية. كما كان تاجر سلاح زود الثوار اليساريين في نيكاراغوا بالأسلحة. كذا زوّد خصومهم فيما بعد.

لافت جداً للنظر أن العمى الإيديولوجي يمكن أن يحول المجرم إلى بطل في عيوننا، لمجرد أننا نتشارك معه العقيدة أو الانتماء الديني أو غيرها من المشتركات، فنبرر له كل جرائمه ونسوغها

أجل، بعد كل هذا التاريخ من العمالة وتجارة السلاح والمخدرات وغسيل الأموال، وتصفية المعارضين برميهم من الطائرات في البحر، سيصبح الرجل مناضلاً يواجه الغرب الإمبريالي. قبله كان ستالين الذي أباد الملايين بطلاً أيضاً لدى العقائديين الإيديولوجيين، وكذا كاسترو ديكتاتور كوبا المزمن.

بالانتقال إلى المنطقة العربية، فمنذ النصف الثاني من القرن المنصرم، بدأت المنطقة بتفريخ أبطال على تلك الشاكلة ولو اختلفت الإيديولوجيات. لافت جداً للنظر أن العمى الإيديولوجي يمكن أن يحول المجرم إلى بطل في عيوننا، لمجرد أننا نتشارك معه العقيدة أو الانتماء الديني أو غيرها من المشتركات، فنبرر له كل جرائمه ونسوغها.

عام 2005 سيقف صدام حسين أمام القاضي برجولته الشرقية التي نبجلها، منكراً كل ما ارتكب من جرائم فهو لم يقتل أحداً. ولم تُرتكب مجزرة الدجيل بأوامر مباشرة منه، ولا مجازر الأنفال والأهوار، ولا هو اقتلع الأكراد "الفيلية" من مناطقهم وقتلهم وطردهم من قراهم، ولا أمر بقصف "حلبجة" بالسلاح الكيميائي، ولا حتى أعدم رفاقه الذين شك بولائهم، رغم أن هناك شرائط مسجلة للحظة تلاوته أسماءهم واعتقالهم. كل هذا لم يكن مهماً بالنسبة لمؤيديه، أو ممن سيصبحون من المعجبين برجولته وشجاعته بعد المحكمة. المهم هو تلك الوقفة الشجاعة والإنكار. في ثقافة أخرى ومجتمعات أخرى، كان الجمهور سيحترم منه لو أنه اعترف بتلك الجرائم واعتذر من ذوي ضحاياه.

لتلك الأسباب، كثرة هم السوريون الذين يمثل لهم صدام حسين اليوم مثالاً للقائد البطل. طبعاً، إضافة إلى أن سيطرة إيران على سوريا وجرائمها خلال السنوات العشر الماضية دعماً للأسد، لا بد أن يستدعي إلى الذهن السوري عدو إيران الأول عربياً والذي خاض حرباً لثماني سنوات معها، وليس مهما أنها أودت بمليون قتيل ودمّرت الاقتصاد العراقي. وطبعاً يجب عدم إغفال ما يترسب في الذاكرة من دعم صدام للإخوان وغيرهم من المعارضين في صراعهم مع سلطة حافظ الأسد خلال حقبة الثمانينيات. فعدو الأسد والإيرانيين الأعداء هو لا بد صديق. لذا فإن أي مقارنة بين الأسد وصدام ستكون لصالح الأخير لدى الجمهور السوري السنّي المعارض، وعلى العكس ستكون لصالح الأسد العلويّ المقاوم والبطل القومي بحسب العراقيين المعارضين لصدام حسين.

نعم، أحد التفسيرات للموقف السوري، والعربي عموماً الممجّد لصدّام هو وقفته "رابط الجأش" لحظة إعدامه كرجل لا يهاب الموت، وهذه جملة أثيرة في موروثنا التاريخي عن البطل الذي "لا يهاب الردى"، وهي تغفر ما تقدم من ذنبه وما تأخّر. السوريون اليوم يعقدون المقارنة بين ذاك الموقف لصدام وبين وضاعات بشار الأسد الذي لم يترك لسوريا أية هيبة، بينما وقف صدام في وجه العالم معانداً، ومات ولم يتنازل حتى وهو في قفص المحكمة، ولذا تنتشر اليوم الكثير من المقاطع المصورة لردود صدام على القضاة خلال تلك المحكمة. تلك القدرة على التماسك في نهايته الدرامية كانت كافية لتحويل الدكتاتور إلى بطل، دون أن يتساءل أولئك عن كمّ المرات التي امتُحنت فيها كرامته سابقاً فهدرها وهدر معها كرامة مواطنيه، وبينما كان صدام يدافع عما ارتكب بوقاحة المجرم المريض نفسياً، كانت القبيلة تصفّق لرجولته.

لنا أن نتخيّل بشار الأسد متماسكاً، ومنكراً لجرائمه بوقاحة أمام محكمة تدين جرائمه مستقبلاً، الأمر الذي سيعطي لآخرين فرصة تكريسه بطلاً قومياً لدى قسم من السوريين وأكثر لدى جمهورٍ عربي سينكر جرائمه ويعتبره، كما البعض اليوم، كان يواجه مؤامرة على سوريا والعرب. المهم أن يكون حينها رابط الجأش، والأفضل لو كان لا يهاب الردى.

في كل حقبة كان للديكتاتور من يقوم بترويجه وتأليف الأساطير عنه. حتى أن جرائم الديكتاتور تصبح ضد الأشرار، فلولا أنهم أشرار ويستحقّون، لما فعل بهم ما فعل. فيصبح ضحايا مجزرة حماة وتدمر وضحايا مجازر الأسد الابن اليوم هم إرهابيون أشرار استحقوا الموت، وكذا ضحايا صدام في شمال العراق وجنوبه.

لدينا في مجتمعاتنا حاجة متأصلة إلى "وَثَن" نبجّله، والوثن الذي يُعبد بالضرورة بلا عيوب، وإذا كان الديكتاتور هو مجرّد كتلة من العيوب، فلا بأس أن ننكرها جميعاً

جزء ليس قليل من السوريين الذين يجدون حافظ الأسد مجرماً وقاتلاً، سيذهبون لاعتبار صدام حسين قائداً عظيماً، والعكس بالعكس بالنسبة لفئة ليست قليلة من العراقيين. يأخذ السوريون على الأسد الأب أنه أسس حكماً عائلياً مستبداً، ويسترسلون، محقّين، في تعداد ذوي النفوذ من العائلة. إخوة الديكتاتور والأبناء والابنة والصهر، وأفراد عائلة الزوجة، إضافة إلى تفريخات عائلة الأسد من أبناء العمومة. وبينما هم يعددون كل هؤلاء فإنهم يَغفلون تماماً عن الحالة المطابقة تماماً لدى صدام حسين. نفوذ الأبناء والأصهار والإخوة وأولاد العمومة وكذلك نفوذ عائلة الزوجة. وبالنسبة للجمهور، فإذا كان الدفاع عن الديكتاتور المحلّي هو بالعمق دفاع عن ذاتٍ جبانة، وهروب من الموقف الأخلاقي الشجاع الذي ينطوي على احتمالية دفع أثمان تتجنب الذات الجبانة دفعها، فإن الدفاع عن الديكتاتور الجار هو محض حاجة نفسية تعويضية. هي الحاجة إلى "بطلنا"، وغالباً تخوننا البوصلة فننحاز لمجرم، منكرين كل معايبه ونواقصه وحتى ارتكاباته وجرائمه.

لدينا في مجتمعاتنا حاجة متأصلة إلى "وَثَن" نبجّله، والوثن الذي يُعبد بالضرورة بلا عيوب، وإذا كان الديكتاتور هو مجرّد كتلة من العيوب، فلا بأس أن ننكرها جميعاً. وإن لم نجد وثناً محلّياً فلا بأس أن نستعيره من دول الجوار. عاد "عمرو بن لحيّ" زعيم قبيلة خزاعة من الشام إلى مكة محضراً معه "هُبَل" بعد أن تعرّف إلى عبادة الأوثان في الشام. كان هناك عيب في هبل، فيده اليمنى مكسورة، سترمم قريش ذاك العيب، وتصنع له يداً من الذهب، وتتابع عبادته.