"دعه يعمل.. دعه يمرّ"

2020.04.23 | 00:00 دمشق

tryf_alrasmalyt.jpg
+A
حجم الخط
-A

انتهجت الدول أنظمة اقتصادية مختلفة، اتفقت في مضمونها على تحديد أهداف مشتركة لتدوير عجلة الإنتاج من أجل تحقيق الربح.

في اقتصاد السوق الرأسمالي مثلاً، تُحدّد عمليات اتخاذ القرار والاستثمارات من أصحاب الثروة، فيما تحدد الأسعار بالاعتماد على مبدأ المنافسة في أسواق السِلع والخدمات.

من المفترض أيضاً أن أغلب الأنظمة الحاكمة في الدول العربية اعتمدت على مبادئ اقتصادية أميل إلى الاشتراكية فأصدرت قرارات تأميم وعملت على قوانين إصلاحية، لردم الهوّة بين العامل ورب العمل أو الفلاحين ومالكي الأرض.

إلا أننا لا نحتاج إلى دراية تامة في علم الاقتصاد لنكتشف أن الأنظمة الاقتصادية المعمول بها في الدول العربية لا تشبه شيئاَ مما سبق ذكره، واكتفى حاكموها بـ"مانشيتات" عريضة من الشعارات الاشتراكية أو غيرها، لاستخدامها كورقة سياسية رابحة قبيل الانتخابات، لاستمالة الطبقة الأكثر فقراً.

لم يعد يخفى على أحد أن رأس المال بوصفه قوة عظمى، بات يقود النظريات السياسية والأنظمة الحاكمة في العالم العربي والغربي على حد سواء، وعاملاً أساسياً في تسييس الدين في كثير من الأحيان، بل حتى أنه يتدخل في مجال الأبحاث العلمية وغير العلمية في أحيان أخرى.

أعادت الأنظمة الاقتصادية الحالية في مختلف الدول وبمختلف أشكالها وتسمياتها، صياغة جديدة لمفهوم الرقّ والاستعباد، فاستخدمت مصطلح "العمل الكريم" لتغطي من خلاله لهاث الفقراء خلف رغيف الخبز، ورسخت مفاهيم غيبية لا نملك كفقراء وقتاً لتفنيدها أو التفكير بنتائجها وسط دوامة العمل الذي تبتلعنا يومياً.

وعلى الرغم من أننا على اختلاف قومياتنا وجنسياتنا، نعيش في دول غنية لديها من الموارد ما يكفي لسد الرمق إذا لم يكن لنا الحق بما هو أكثر، إلا أن الأنظمة المتقدمة اكتفت باستيفاء الضرائب وإعادة تدويرها بمنحها إلى العاطلين أو غير العاملين واللاجئين وفقاً لنظام الضمان الاجتماعي، فيما اكتفت أنظمة العالم الثالث بسياسة "كل مين يدبر راسو"، وفي الحالتين فإن معدلات الفقر في العالم ما زالت في ارتفاع على الرغم من موارد الكوكب التي لم تنضب بعد.

يعيد ذلك السلوك إلى أذهاننا، ما يعزز فكرتنا أن الأنظمة الحاكمة أو الرأسماليين -ممن يحتكرون الربح ويتاجرون بقوت يوم العمالة اليومية أو الموسمية من دون رادع أخلاقي أو قانوني- يعتاشون على لحوم الفقراء مستفيدين من تردي أوضاعهم المعيشية وحاجتهم للعمل حتى في غياب ضمانات تمنع تسريحهم أو استخدامهم من دون ضوابط.

ما يوحي أن الدول بمفهومها التنظيمي والمؤسساتي في عالمنا مستهلك لا أكثر، وأقرب إلى شكل مافيوي مصغر يتقاضى ربحاً من مبدأ الحماية التي لا تقوم بها، للمنتج الحقيقي وهو العامل الذي يعمل أكثر من ثماني ساعات متواصلة أو منفصلة، ويصاب بأمراض العظام في شيخوخته ثم لا يجد لنفسه تأميناً ولا طبابة.

لقد لعبت دول العصر الحديث لعبة أصحاب العمم واللحى ومارسوا علينا غيبية انتماء وقومية انتقدوا استخدامها من مبشري الأديان، فقدموا للشعوب وصفة جديدة غير مجربة من قبل ادّعوا فيها أنهم صانعو السلم والمدافعون عن حقوق الإنسان على الرغم من الانتشار الكبير للمتسولين والمشردين في أرجاء الكرة الأرضية.

ربما لم يكن العيب بأي شكل من أشكال الأنظمة الاقتصادية المتبعة اشتراكياً كان أم رأسمالياً، بل بطريقة تطبيقها والقائمين على تنفيذها، الذين يعملون لهدف واحد هو التربح الشخصي والمنفعة الخاصة.

من واجبنا على الأقل أن ندرك في أعقاب الانتشار الواسع للفقر الناجم عن استغلال أصحاب المصانع للعمال، عبر دفعهم إلى العمل في بيئات خطرة وغير صحية، أن وقوف الحكومات موقف المتفرج يؤدي إلى ظهور مشكلات لها آثار مجتمعية، أبرزها الاستغلال وسوء معاملة الطبقات الكادحة.

إذ من باب أولى أن تبدأ الحكومات بتبني سياسات اقتصادية لا تهدف إلى السيطرة على الإنتاج أو الحد من الكفاءة، وإنما تعمل على حماية العمال والمستهلكين، وتحجيم حالة تغوّل الرأسمالية وسيطرة المال بوصفه معبوداً لدى الدول والمنظمات والأفراد، للحد من حالات الاختلال الاقتصادي والفجوات بين الناس.

إن أي نظام اقتصادي يهدف إلى إصلاح الوضع العام للفقراء ورفع معدلات دخولهم، لا يمكن أن يثمر إلا إذا ترافق مع نظام عمل يحترم إنسانية الإنسان ويجعله شريكاً في ثروة الدولة التي ينتمي إليها، لا عاملاً مياوماً عرضة للطرد في غياب قوانين تُسن لحمايته، ما يستدعي وجود إطار قانوني عام لحماية العمالة التي تعد بحاجة لذلك.

وإلا فعلى الحكومات الرأسمالية والأنظمة السياسية، أن تكف عن استعطاف الشعوب بأن العالم في مواجهة وباء واحد وأنه عدو مشترك، فالفقراء حتى الآن ما زالوا يواجهون موتهم وحيدين مثلما واجهوا عثرات حيواتهم وحيدين أيضاً.